بصرف النظر عن اتهامات سلطة الشاه للخميني بالعمالة للمخابرات البريطانية في شبابه، فقد بدا واضحاً الموقف الغربي المؤيد للثورة الإيرانية التي استطاع الخميني، التصدر لقيادتها، إذ رفعت الولايات المتحدة مسألة حقوق الإنسان في وجه الشاه، إلى جانب تصريحات غامضة من دبلوماسييها، وفيما كان الشاه مازال يعتقد بوجود بعض خيوط الود مع الولايات المتحدة آملاً مساعدتها، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية في عهد كارتر _ الذي كانت علاقات إدارته بإيران متوترة _ تصريحاً رسمياً أعلن صراحة أن الولايات المتحدة لا تنوي التدخل في شؤون إيران بأي شكل من الأشكال، لكن الأخطر في الموقف الأمريكي من ثورة الخميني ضد الشاه هو عملها على تحييد الجيش الإيراني، عامل القوة الأهم للشاه، ومما يُذكر في هذا الصدد أن أحد المقربين من الشاه نصحه باستخدام الطيران في قمع الثوار، فكان رد الشاه أن الطيارين يأتمرون بأمر الأمريكيين لا بأمره، حيث كان آلاف المستشارين الأمريكيين  يشرفون على تأهيل الجيش الإيراني.

 

أشار الشاه محمد رضا في مذكراته إلى ما اعتبره تضليلاً من قبل الأمريكيين والبريطانيين، والأهم إلى مقابلة جرت بينه وبين ممثل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في إيران، خرج منها بقناعة بأن الأمريكيين تخلوا عنه لصالح الخميني. وهو ما تأكد من زيارة الجنرال هاوسر نائب القائد العام لقوات حلف الأطلنطي في أوروبا، لإيران، والتي استغرقت ثمانية أيام في بداية العام 1979م، وانحصرت مهمة هاوسر في منع الجيش الإيراني من القيام بانقلاب لإنقاذ عرش الشاه- كما حدث في الخمسينيات- وكان واضحاً أن هدف الإدارة الأمريكية أثناء تصاعد الحركة الثورية منصباً على إبعاد القوات المسلحة الإيرانية عن التحرك نهائيا.

 

وفي الاتجاه كان للمخابرات الأمريكية دور حاسم في تأمين عودة الخميني من فرنسا إلى إيران، وإقناعها السلطات الفرنسية بتأجيل رحلة الطائرة التي أقلت الخميني ثلاثة أيام تفادياً لاحتمالية إسقاطها في الأجواء الإيرانية من قبل موالين للشاه.

 

وعلى ذات المضمار تولى الإعلام الغربي، سيما الأمريكي والفرنسي والبريطاني، والإسرائيلي مهمة مهاجمة الشاه، وفتح أبوابه للخميني، من ذلك أن الصحف الأمريكية كانت تنشر تصريحات الخميني وصوره في أعمدتها الرئيسية بجوار بيانات المعارضة الإيرانية في الولايات المتحدة، أما هيئة الإذاعة البريطانية فساندت الخميني بشدة وبثت بالفارسية دعواته إلى قلب نظام الشاه، ونشرت مراسليها في أنحاء إيران لنقل وجهات نظر الثوار، وأبرز الإعلام الفرنسي الخميني بوصفه زعيماً جديداً لإيران.

 

نجحت الثورة الإيرانية رسمياً في فبراير 1979م، وعاد الخميني إلى طهران زعيماً شعبياً بدون منازع، وما إن وصل حتى شرع في ترتيبات تحويل آرائه السياسية في محاضراته، التي جمعت في كتاب "الحكومة الإسلامية" إلى مشروع سياسي أوحد، لكن هذا المشروع في الواقع كان مصطدماً برؤى مخالفة من شركاء الثورة، ما جعل الخميني وأتباعه أمام مهمة مزدوجة، تصفية العهد البهلوي من جهة والتخلص من شركاء الثورة خارج خط ولاية الفقية من جهة ثانية، ولتحقيق ذلك استمر الخميني على الأساليب التعبوية الكرنفالية الشيعية وخلق شعارات سياسية جذابة للمزاج الإسلامي عموماً، من أهمها شعار "الموت لأمريكا، الموت للاتحاد السوفيتي، الموت لإسرائيل"، واستعار من موسى الصدر مصطلحات "المستكبرين" والمستضعفين"، وأتى بمقولة "الشيطان الأكبر"، وتوسل الخميني تدابير عملية تتركز في إيجاد سلطة خاصة موازية لسلطات الدولة كالمجلس الثوري الإسلامي الذي عمل في خط مواز لحكومة بازركان، واللجان الثورية، واللجان الشعبية، وما عُرف بمندوب الإمام في مختلف مؤسسات الدولة، والأهم تأسيس الحرس الثوري الإيراني الذي يعد إلى اليوم الذراع العسكري والأمني والاقتصادي لنظام ملالي ولاية الفقيه.

 

وتمكن الخميني من خلال ضمان غلبة الموالين له في لجنة لصياغة دستور ما بعد الثورة من إدخال مفهوم "ولاية الفقيه" كمرتكز للنظام السياسي الجديد، بل إنه أثناء تسرب الجدل والخلاف من اللجنة إلى خارجها تدخل الخميني مباشرة وألقى خطاباً جماهيرياً جاء فيه "أن ولاية الفقيه ليس شيئاً من ابتكار واختراع خبراء اللجنة وإنما هي شيء قد أمر الله به"، وكان يعني اعتماد النظام السياسي لولاية الفقيه مواجهة الرافضين لهذا النظام.

 

وبدون الإسهاب في الموضوع، أنشأ الخميني "محاكم الثورة" في أنحاء إيران، وأصدرت أحكاما أسفرت عن وجبات إعدام بالآلاف لمحسوبين على نظام الشاه، مدنيين وعسكريين، وبعمليات قمع ممنهجة أزاح الخميني وأتباعه خلالها شركاء الثورة العلمانيين، وأحزاب دينية سنية، ثم الرافضين لولاية الفقيه من رجال الدين الشيعة بينهم، وأهمهم آية الله العظمى شريعتمداري وأنصاره، شريعتمداري هذا أحد أهم المراجع الشيعية في العالم، وهو من أنقذ الخميني من حبل المشنقة أو السجن أواسط الستينيات بإضفاء لقب "أية الله العظمى" على الخميني ما فوت على الشاه إمكانية إعدامه أو سجنه لأن العرف الدستوري والقانوني الإيراني يحظر حبس أو إعدام أي مرجعية دينية يصل إلى درجة "اية الله عظمى". وانتهى الأمر بالخميني وأتباعه بإخراج أية الله حسين منتظري من المشهد السياسي، ووضعه تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته منتصف العقد الفائت، على الرغم أن منتظري كان أحد أعمدة نجاح الخميني، بل وأهمها، سواء أثناء الثورة أو بعدها، وكان الرجل الثاني بعد الخميني، ورشح لخلافته، أما السبب فآراؤه المعتدلة وبخاصة ما يتعلق بالولاية المطلقة للفقيه.

 

لقد كان نظام ولاية الفقيه مهيئاً بمخزون الكراهية الموروث من النظرية الشيعية الفارسية ليكون أداة من أدوات الصراع في الحرب الباردة، ووسيلة قليلة الكلفة في إيجاد قدر من توتير المحيط الإقليمي العربي، يمتص الجهود ذات البعد القومي، ويقلص أوراق الضغط العربي على الكيان الإسرائيلي، بنفس الوقت الذي يجعل النفط الخليجي والأموال الناجمة منه تحت رعاية العم سام، ولأسباب متعلقة بتوافق ضمني لمثلث المصالح الأمريكية والإسرائيلية والإيرانية مارست الأخيرة ما نستطيع تسميته سياسة الإيذاء لجيرانها العرب.

 

لم يكن السلوك الفارسي تجاه العرب وقبلهم الساميين ودياً في أغلب المسار التاريخي بين الجانبين، وحتى نكون منصفين فإن العلاقات بين أي كيانين سياسيين متجاورين كانت تتسم بالتوتر أو الصراع، لكن أكثر تلك الصراعات كان ذات طابع سياسي بدرجة أساسية، فيما الصراع الفارسي العربي ممزوج بمضامين ثقافية حافظت على نزعة كراهية فارسية للعرب، على سبيل المثال استطاع اليونان أن يعوضوا هزيمتهم السياسية أمام الرومان بغزو ثقافي انتهى بسيادة الثقافة اليونانية، وإحداث حالة تمازج إيجابي بين ماهو يوناني وماهو روماني، بحيث أن الثقافة اليونانية تخلت عن عقيدة التفوق والسعي لالتقاط الثقافة الرومانية الناشئة بغرض التحكم ببنيتها وزرع بذرات الصراع داخل البنية الثقافية الجديدة، بعكس ما حصل من تغلغل الثقافة الفارسية في البنية الثقافية الإسلامية للعرب حاملة معها حقد الانهزام السياسي.

 

إضافة إلى ذلك فقد تطورت السياسات العالمية باتجاه إرساء تقاليد وقواعد، وإنشاء مؤسسات مشتركة تحاول ترشيد الخلافات السياسية بين البشر والدول، من ذلك احترام سيادات الدول وعدم تدخل دولة ما في الشؤون الداخلية لدولة أو دول أخرى، بصورة مباشرة، غير أن مصالح الدول الكبرى في ظل هذا التطور السياسي الدولي لجأت لاستخدام أدوات تحكم غير مباشرة.

 

في القرن الأخير، تخللت العلاقات الإيرانية العربية في عهد الأسرة البهلوية شوائب من بينها احتلال إيران لجزر أبو موسى وطنب الكبرى والصغرى بداية السبعينيات، مع هذا كانت القدرات الإيرانية محدودة في سياسات الإيذاء لجيرانها العرب لأسباب متصلة بعوامل إقليمية ودولية لا تقبل تجاوز كبير على القانون الدولي كعملية احتلال وضم عسكري لدولة ذات سيادة كالبحرين مثلاً التي يعتبرها إيرانيون أرضاً تابعة لهم. وكان البديل تأثير إيران في سياسات الدول المجاورة لصالح النفوذ الإيراني عبر وسائل تقليدية في السياسات الدولية، كالمساعدات وهي غير قابلة للتنفيذ في حالة دول عربية مجاورة ثرية، أو العمل الاستخباراتي، غير أن الأخطر كان القدرة على إنشاء أذرع داخل الدول المجاورة، وهو مالم يتمكن منه النظام البهلوي إلا في حالة استغلال الأقلية الكردية في العراق، لكن الأكراد يمكن بالمقابل استخدامهم كورقة ضد الإيرانيين بسبب تواجد الملايين منهم في إيران ومعاناتهم من الحكم الفارسي.

 

بعكس الشاه، توفر للخميني وقد أقام دولة دينية شيعية، وبشعارات معلنة ضد أمريكا وإسرائيل، إمكانية فتح ثغرات مهمة في الجدار العربي عبر الأقليات الشيعية المتناثرة في دول المشرق العربي، وما يمكن إضافته من تعاطف شعبي بين العرب السنة المستائين من السياسات الأمريكية في منطقتهم، والمعانين من الخطر الإسرائيلي، وخمول النظام السياسي العربي، إلى جانب جاذبية المعتقدات الشيعية المعلنة في إيران لبعض ممن ينسبون أنفسهم سلاليا للإمام علي، وما تعطيه تلك المعتقدات من مسحة قدسية تضعهم في دائرة التمايز عن غيرهم من البشر.

 

وما زاد إمكانية الاختراق الإيراني من الناحية النظرية، التماهي الشديد بين السلطتين الدينية والسياسية في المعتقدات الشيعية "الثيوقراطية"، قواها أكثر ترسخ اجتهادات مارسها بقوة في القرن السادس عشر الميلادي عقا محمد بكير بهبهاني الذي أوجب على كل مؤمن أن يختار مجتهداً كمصدر للمحاكاة أو كمرجع للتقليد وأصبحت آراء المرجعيات تعليمات دينية واجبة التنفيذ، ما أدى إلى حسم عامل القوة لصالح المؤسسة الدينية، التي ظلت قوية في إيران، إلى أن تسلمت مباشرة الحكم عبر نظام ولاية الفقيه، بقيادة مرجعيات دينية شيعية لا يتوقف واجب طاعتها داخل الحدود السياسية الإيرانية، وإنما يمتد إلى كل شيعي في العالم يتخذ من أحد هذه القيادات "مرجعية تقليد"، على سبيل المثال اعتبار أمين عام حزب الله الحالي حسن نصر الله نفسه وكيلاً لمرشد الثورة الإيرانية في لبنان.

 

في الواقع لم يكن نظام ولاية الفقيه متحرجاً من إظهار نيته في القيام بدور المزعزع لاستقرار المنطقة، فقد نص الدستور الإيراني في فصل "السياسة الخارجية"، المادة (154) على أن "الجمهورية الإسلامية الإيرانية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة من العالم"، وكانت الترجمة المهمة لهذه العبارة تصريحات مسؤولين إيرانيين عن "تصدير الثورة" وإنشاء مكتب بهذا الاسم في وزارة الخارجية الإيرانية عقب نجاح الثورة الخمينية، ونقله إلى مكتب المرشد الأعلى للثورة بناء على طلب وزير الخارجية وقتها بسبب ما كان يلاقيه من تساؤلات دبلوماسيين دول أخرى حول أهداف مكتب تصدير الثورة.

 

لقد كانت سياسات نظام ولاية الفقيه، ومازالت مؤذية لجيرانها العرب، من خلال تشجيعها ودعمها للتمردات والتحركات الطائفية في العديد من البلدان، وتأسيسها حركات سياسية شيعية موالية كحزب الله في لبنان وبعض دول الخليج، والحشد الشعبي في العراق، والحوثيين في اليمن.

 

ارتبط نهج الإيذاء والتحريض من أيام ثورة الملالي الأولى، ولا يعدم المهتم كثيراً من الشواهد، منها صرخة الخميني وندائه لحجاج مكة عام 1407هـ ( 6891م ) بإثارة الشغب أثناء أداء مناسك الحج، وحدوث فتن بعض السنوات بحجة إعلان البراءة من أمريكا وإسرائيل، لكن في مكة التابعة سياسياً للمملكة العربية السعودية، ومنها مظاهرات عاشوراء شرق السعودية أواخر العام 1979م وتحولها إلى مظاهرات سياسية مؤيدة للخميني.

 

وعلى المستوى الديني الإسلامي عموما، كان انتصار الثورة الإيرانية إعلان نعي لمحاولة التقريب بين المذاهب الإسلامية، عبر مؤسسة دار التقريب التي تأسست في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي في مصر من علماء من مختلف المذاهب الإسلامية بينها المذهب الجعفري الإثني عشري. وقد كانت وصلت إلى نتائج طيبة منها تفسير للقرآن متفق عليه. لكن تحت تأثير إنعاش الثورة الإيرانية لإمكانية بروز التشيع مسنودا بالقوة السياسية الإيرانية وإمكانياتها المالية، قل بريق التقريب بين المذاهب الإسلامية النشط على مدى يزيد على ثلاثين عاما، ولم تحوله الثورة الخمينية إلى أولوية من بين أولوياتها الفكرية، بالعكس سلكت بشكل طائفي، على الصعيدين الداخلي والخارجي، تماشيا مع نزعة التفكيك الداخلي للمجال الإسلامي.

 

سلسلة حلقات تنشرها وكالة 2 ديسمبر من ملف بعنوان (السرطان الفارسي) – الحلقة التاسعة..

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية