من حداد نصر الله ورئيسي الى استرخاص دم الرهوي.. الحوثي يعيد تأكيد تبعيته لإيران
في خطاب هو الأقصر والأكثر غموضًا له منذ بدء التصعيد في البحر الأحمر، ظهر زعيم المليشيا، عبدالملك الحوثي، ليتحدث عن "مرحلة جديدة" من المعركة الأمنية.
لكن ما غاب عن خطابه كان أكثر دلالة مما قيل: تجاهل شبه تام لذكر أسماء أو حتى عدد وزراء حكومته (غير المعترف بها دوليًا) الذين سقطوا في القصف الإسرائيلي، مكتفيًا بالإشارة العابرة إلى "عدد من الوزراء والمدنيين".
وتعكس حملة الاختطافات واسعة النطاق ضد موظفي الأمم المتحدة والناشطين محاولات لتبرير الفشل الداخلي وابتزاز المجتمع الدولي، بينما يبرز تجاهل التشييع الرسمي للقتلى واستمرار الاحتفالات، بما فيها الألعاب النارية بمناسبة مولد الجبايات، ازدواجية المليشيا في التعامل مع قتلاها المحليين وحلفائها الخارجيين، ما يؤكد أن ولاء المليشيا الحقيقي يتجه نحو محورها الإيراني أكثر من أي اهتمام بأتباعها في الداخل.
هذا الصمت المطبق جاء ليؤكد الوزن الحقيقي لهذه "الحكومة" ومدى تأثيرها الفعلي على مشهد المليشيا الإرهابية في العاصمة المختطفة صنعاء؛ إذ لم تكن إلا مجرد ديكور سياسي يُدار من قِبل مشرفي المليشيا المفوضين من زعيمها والحرس الثوري الإيراني.
هاجس الاختراق يطغى على فداحة الخسارة
وبدلًا من استعراض الخسائر البشرية فيما يفترض أنه صفه الإداري الأول، بدا واضحًا أن هاجسًا آخر شغل بال الحوثي: "الاختراق الأمني".
وكان إعلانه عن تدشين ما أسماه "مرحلة جديدة من المعركة الأمنية لتحصين الجبهة الداخلية" بمثابة اعتراف صريح ومباشر بنجاح إسرائيل في اختراق صفوف مليشياته والوصول إلى أهداف بهذا الحجم.
وتحدث الحوثي عن أن "المعركة الأمنية أساسية ورديفة للمعركة العسكرية"، وهو ما يعكس تحولًا في الأولويات نحو تشديد القبضة الأمنية الداخلية.
هذا التوجه تُرجم سريعًا على الأرض عبر حملة اختطافات واسعة طالت عشرات الموظفين الأمميين والناشطين، في خطوة فُسرت على أنها محاولة لتبرير الفشل وإيجاد كبش فداء تستعرض عليه المليشيا عضلاتها الأمنية لتعيد ترميم بعض ما تحطم من صورتها أمام أتباعها. ومن ناحية أخرى، وهي الأخطر، يرى مراقبون أن مليشيا الحوثي تسعى من خلال هذا الكم من الاختطافات لموظفي الأمم المتحدة، إلى استخدامهم كرهائن لابتزاز المجتمع الدولي والضغط من أجل تسفير جرحاها للعلاج في الخارج وضمان عودتهم دون ملاحقة، حيث يرجح أن من بينهم شخصيات شملتهم العقوبات الأمريكية لارتباطهم المباشر بالأنشطة الإرهابية للمليشيا.
تغيب عن التشييع
وفي مشهد آخر يوضح حجم الاستهزاء وعدم الاهتمام بمن قُتلوا في سبيل مشروعهم المدمر لليمن بمحاولة إظهارهم أمام العالم أنهم حكومة حقيقية، غاب معظم قادة الصف الأول للمليشيا عن موكب تشييع رئيس حكومتها أحمد الرهوي ووزرائه التسعة الذين قضوا في الغارة الإسرائيلية الخميس الماضي.
واقتصرت مراسم التشييع، التي أُقيمت الاثنين الماضي بصنعاء، على حضور الصف الثاني من القيادات، في حين تولى محمد مفتاح، القائم بأعمال رئيس الحكومة الانقلابية، قيادة الموكب وإلقاء كلمة حاول فيها طمأنة الموالين والتأكيد على "تماسكهم" واستمرارية المؤسسات التي لا تعترف بها المليشيا نفسها وقامت بتدميرها بطرق ممنهجة.
هذا الغياب أثار استياءً واسعًا بين عائلات الصرعى والمناصرين، معتبرين ذلك يعكس إما حالة ذعر داخلية وعدم ثقة بالقدرة على تأمين الفعالية، أو استنقاصًا لمكانة الصرعى، خاصة أن قيادات الحوثي ظلت تتسابق لتقدم صفوف قتلاهم من السلاليين في الأشهر والسنوات الماضية.
تجاهل متعمد
يثير التجاهل تساؤلات أعمق عند النظر في تركيبة "الحكومة" المستهدفة، حيث ينتمي معظم أعضائها إلى المحافظات الجنوبية وحزب المؤتمر الشعبي العام. ويرى محللون أن هذا التجاهل قد يكون رسالة مزدوجة: الأولى؛ التقليل من أهمية هذه الشخصيات سياسيًا، والثانية؛ محاولة لاستثارة أي ردود فعل قد تأتي من قواعدهم الشعبية أو الحزبية، والتي قد ترى في صمت الحوثي استخفافًا بتضحياتهم، حيث ستستخدم المليشيا ردود الفعل كذريعة لزيادة التنكيل والقمع لكل المختلفين عنها وفي مقدمتهم حزب المؤتمر الشعبي العام.
ويأتي هذا التجاهل ليُضعف- بشكل كبير- سردية ما يسمونه "الشراكة الوطنية" التي حاولت المليشيا تسويقها منذ سيطرتها على صنعاء، ويُظهر أن القرار والنفوذ الحقيقيين يظلان حكرًا على الدائرة العقائدية السلالية الضيقة المحيطة بزعيم المليشيا.
بين حِداد "نصر الله" واسترخاص "الرهوي"
ولعل المفارقة الأكثر إثارة للجدل تمثلت في موقف الحوثيين من قتلاهم واسترخاصهم لأرواح من يعتبرونهم وفق المصطلح الشايع مجرد "زنابيل" يخدمون السلاليين. ففي حين لم يُعلن الحداد الرسمي على "وزرائهم"، ولم تُفتح صالات العزاء لاستقبال المعزين، كانت المليشيا قد سارعت سابقًا إلى تنكيس الأعلام وإعلان الحداد وفتح المقرات لاستقبال التعازي عند مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، أو عند تصفية أمين عام حزب الله حسن نصر الله.
ولم تكتفِ المليشيا بذلك، إذ لم تلغِ الاحتفالات الدخيلة على المجتمع اليمني، بما فيها الألعاب النارية، احترامًا لدماء القتلى، بل أكدت أن من سقطوا من فئة "الزنابيل" لا يشكلون أي وزن طائفي لديها يستدعي وقف مظاهر الاحتفال بمولد الجبايات، حيث أعلنت اللجنة المنظمة للاحتفال بالمولد النبوي أن الساعة الثامنة من مساء الأربعاء ستكون موعدًا لبدء إطلاق الألعاب النارية في العاصمة المختطفة صنعاء وعدد من المحافظات المنكوبة بسيطرتها.
هذه الازدواجية في التعامل مع حلفاء الخارج وقتلى الداخل، عززت لدى الكثيرين قناعة بأن ولاء المليشيا الحقيقي يتجه نحو الحرس الثوري وما تتصل به من أدوات، أكثر من اهتمامها بالشخصيات التي تعمل لحسابها في الداخل.