إيران والهندسة الطائفية في اليمن
كانت دواوين اليمن، قبل عقد من الزمن، تعج بأطياف اليمنيين، تتسع لسجالاتهم التي تعبر القرون، فتستحضر خلاف "ذوي الكفاءتين" (علي ومعاوية)، وتستنطق التاريخ بحثًا عن حكمة تُطفئ لهيب الحاضر. كانت تلك النقاشات، وإن اشتعلت حماسًا، تُختَم بابتسامة تمزق سُحب الخصومة، كأنها إشارة إلى أن الخلاف الفكري رفاهية حضارية لا تسمح بها الجغرافيا اليمنية.
أما اليوم، فقد تحول التاريخ إلى سلاح، والحِجاج إلى ذخيرة، والرأي إلى معتقد. ما كان خلافًا في تأويل الماضي صار حربًا على تمثيل الحاضر، وما كان سجالًا أدبيًا في الدواوين تحول إلى معارك ودماء. لقد استعارت السياسة ثوب المذهب، وأُلبست الجغرافيا درع الطائفة، حتى صار اليمنيون سجناء سردية دموية، يُقتلون في حرب، ويُدفنون في قبور حفرتها أيادٍ خارجية تعتصر المنطقة بحقد التاريخ.
لطالما كانت إيران تلعب بورقة "المظلومية" لتحول كل احتجاج إلى مذهب، وكل مذهب إلى مليشيا، حتى أصبحت اليمن ورشة إيرانية لهندسة الفوضى. "المستعمرون الجدد" استعاروا شعارات التحرير ليعيدوا إنتاج الاستعمار، ويرفعون رايات المذهب ليغرقونا في مستنقع الانقسام.
لا يخفى أن المشروع الطائفي الإيراني، رغم نزفه في سوريا ولبنان، يحاول إعادة تدوير ذاته في اليمن عبر مليشيات الحوثي الذين حولوا البلاد إلى رهينة لخطاب مزيف، يتسلح بشعارات "الولاية" فيعيد إنتاج الفتنة الطائفية. الحرب ليست مجرد صراع على السلطة، بل اختبار لقدرة المجتمع على تجاوز خطاب التفكيك الذي يديره وكيل إيران في اليمن بسلاح إيراني وأموال ضعفاء اليمنيين ومعدميه. إن الخروج من معسكر الحوثيين، الذين حولوا اليمن إلى رهينة لمشروع التوسع الإيراني، ليس انتصارًا عسكريًا فحسب، بل هو انتزاع للوعي من فخ الطائفية التي تضيق اليوم بضعف محركها الإيراني. الفوز العظيم يكمن في أن نرفض أن نكون أرقامًا في معادلة التدخلات الإيرانية في بلدنا، وأن نعيد للوطن حقه في أن يكون سيد نفسه.