بعد عشر سنوات من الغياب عن الصين، عُدنا إلى هذا البلد العظيم من بوابة (منتدى السياسيين العرب الشباب) في دورته الثالثة الذي استضافته مدينة تشو هاي (لؤلؤة البحر) جنوب البلاد، بمشاركة أكثر من 100 شاب وشابة يمثلون 21 دولة عربية والذي استمر لمدة يومين وخرج بإعلان (تشو هاي).

لا يعرف الإنسان من أين يبدأ وهو يتحدث عن هذا البلد العريق وشعبه الأصيل، هل من حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة؟ أم من حُسن ودقة التنظيم وانضباط المواعيد؟ أم عن جمال البلاد الأخّاذ وطبيعتها الخلَّابة الساحرة؟ أم عن البُنية والتنمية الشاملة والمتطورة والابتكار والقفزات النوعية التي تشهدها الصين؟؟ فكل مُفردة وموضوع من ذلك بحاجة إلى مقالات كثيرة.

فمنذ دخولك الأجواء الصينية تشاهد المناظر الطبيعية الخلَّابة الساحرة والمدن والقرى وكأنها لؤلؤ منثور في الجبال والسهول، إلى جانب البحيرات والأنهار والسدود الكبيرة، والمزارع الواسعة والأبراج وهي تملأ الحضر والريف، وكأنها جنّة الله في الأرض.

ما إن وصلنا إلى مطار (جوانزو) جنوب البلاد حتى قوبلنا بحفاوة كبيرة من الأصدقاء الصينيين، كعادتهم في استقبال ضيوفهم بكل بشاشة وسعادة، واصطحبونا بعد استكمال الإجراءات إلى مدينة (تشو هاي) التي ستحتضن المؤتمر.

اثنا عشر يومًا مليئة بالعلم والمعرفة والثقافة والتعارف والتواصل البنّاء، والسياحة، موزّعة على فترتين صباحية ومسائية، تبدأ فعلياً من السادسة صباحًا حتى السادسة مساءً وأحيانًا لما بعدها، وكلها جلسات عمل وزيارات ميدانية لأبرز المعالم السياحية والشركات والجُزر الجميلة ولقاءات مع قيادات في الدولة والحزب، وبترتيب وتنظيم وتنسيق رائع.

وعلى الرغم من أن أسرار نجاح الشعب الصيني كثيرة، إلّا أن أبرزها، هو تطبيقهم الحرفي لقول الله تعالى: { وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } حيث تراهم منذ الصباح الباكر وهم ذاهبون إلى أعمالهم، بينما في المساء تكون الحركة في المُدن قليلة إلى حد كبير باستثناء العاصمة بكين.

كما أن من أسباب نجاح الصين هو انتهاج سياسة الإصلاح والانفتاح والابتكار حيث نجحت في توفير رؤوس الأموال وتوسيع مجال النمو الاقتصادي وكذلك رفع مستوى الإنتاج ومستوى الإدارة عن طريق جذب الاستثمار الأجنبي ودعم العلماء ومراكز الأبحاث والابتكار والتكنولوجيا المتقدمة وغيرها.

التواضع، سمة من أهم السمات التي يتصف بها الشعب الصيني، فتراهم يتعاملون مع الجميع وكذلك فيما بينهم باحترام وتواضع كبيرين، كونهم يتكئون على إرث حضاري عمره آلاف السنين، كما أن أبرز ما يميزهم هو اعتزازهم بتاريخهم العريق، إضافةً إلى عدم تنكُّرهم لماضيهم القريب وما عانوه من ويلات وصراعات وفقر، جرَّاء التدخلات الخارجية واحتلال بلدهم من الإمبراطورية اليابانية، والتضحيات الجسيمة التي قدّموها حتى نيل الاستقلال الوطني عام 1949 بقيادة الزعيم التارخي (ماو تسي تونغ) الذي يُكنُّ له الصينيون احترامًا وتقديرًا كبيرين.

ومن أبرز أسباب نجاح الصين سياسيًا واقتصاديًا، هو عدم تدخلها في الشؤون الداخلية للدول الأخرى كونها لا تملك أجندة غير الأجندة الاقتصادية والثقافية، وتعمل على رأب الصدع والتوفيق بين الأطراف المختلفة بكل حكمة، كما تسعى إلى ربط العالم بطريق الحرير والحزام الجديد الذي أعلنه الرئيس شي جين بينغ عام 2013، والذي يُعدُّ امتدادًا للشريان الأول لربط الحضارة الصينية القديمة بالحضارات الأخرى ومنها الحضارة العربية والإسلامية، حيث استطاع هذا المشروع أن يحقق نجاحًا كبيرًا في فترة زمنية وجيزة، كونه لا يخُصُّ الصين وحدها، بل للعالم أجمع، لما لذلك من أهمية بالغة وأثر كبير في ربط الصين كأكبر شعب مُنتج في العالم، ببقية الشعوب.

56 قومية في وطنٍ تعدادُ سكانه مليار وأربعمائة مليون نسمة (خُمس سكان العالم) على مساحة قدرها 9 ملايين وستمائة ألف كم2 (ثالث دولة في العالم من حيث المساحة) تجمعهم الصينُ الوطنُ يعيشون حالة من الانسجام والتناغم والاحترام المتبادل ويُنظّمُهم القانون الذي يعيشون جميعاً تحت مظلته.

في اليوم التالي للزيارة، تعرّفنا إلى أكبر جسر مُعلّق في البحر على مستوى العالم وهو جسر (تشوهاي - هونغ كونغ- ماكاو) الذي يبلغ طوله 55 كيلومتراً منه 6 كيلومترات تحت الماء، والذي كان الهدف من إنشائه ربط الصين الأم بمقاطعتي (هونغ كونغ وماكاو) اللتين تتمتعان بحكم ذاتي منذ أمد بعيد، لكنهما تتبعان الصين الواحدة.

وهذا الجسر آيةٌ في الجمال والإتقان ويؤكد إصرار العقل الصيني على التمّيز والإبداع وقهر المستحيل، حيث استمر بناؤه عشر سنوات وتم افتتاحه في أكتوبر عام 2018م، وتتجاوز تكلفته الـ 10 مليارات دولار.  

بعدها انتقلنا إلى مصنع شركة (قري gree) للمكيفات والأدوات الكهربائية والمنزلية الأخرى وهي رابع شركة في العالم، بقيادة المرأة الحديدية (مدام دونغ) التي أسست الشركة قبل ثلاثة عقود، وهناك كان في استقبالنا رجل الأعمال السعودي المهندس/ حامد العرفج وكيل الشركة في المملكة العربية السعودية الشقيقة منذ 23 عامًا، الذي طاف بنا على جزء من المصنع وقدم شرحًا ضافيًا عنه منذ إنشائه ومراحل تطوره إلى أن وصل إلى ما هو عليه من مكانة مرموقة حيث كان عدد موظفيه عشرين ألفًا وأصبحوا اليوم ثمانين ألف موظف، والأهم من ذلك كله عدد براءات الاختراع المُسجلة في هذا المصنع والتي تجاوزت 127 ألف براءة اختراع، ووصول مراكز الأبحاث فيه إلى 1400 مركز.

بعدها زرنا شركة (بنتيوم pantum )الخاصة بإنتاج الطابعات، وتعرفنا على جديد الشركة من الطابعات في العالم.

وكذلك مصنع الطائرات التابع لشركة طيران الصين المحدودة الذي أصبح ينتج ستمائة طائرة في العام، من الطائرات المتخصصة في إطفاء حرائق الغابات وكذلك الطائرات التجارية وطائرات التدريب.

كما زرنا أيضًا دار الأوبرا في مدينة (تشو هاي) وهي معلمٌ يمثل آية في الجمال والإبداع، حيث تتكون من مبنيين على شكل صَدَفتين، الأولى على هيئة الشمس ويبلغ ارتفاعها 90 متراً، بينما الأخرى على هيئة القمر ويبلغ ارتفاعها 60 متراً.

بعد اختتام مؤتمر السياسيين العرب الشباب، وإعلان البيان الختامي، الذي أكد عمق العلاقات الصينية العربية، ووقوف الصين إلى جانب القضية الفلسطينية العادلة والمساهمة في حل النزاعات بالطرق الدبلوماسية والسلميّة، ذهبنا إلى غابة الصداقة الدولية لشباب الصين والدول العربية في مدينة (تشو هاي) وسقينا أشجار العلاقة حيث يوجد لكل دولة شجرة باسمها، وهو تقليد جميل يتّبعه الصينيون لتأكيد وترسيخ هذه العلاقات التاريخية.

بعدها انتقلنا جوًا إلى مدينة (فوتشو) حاضرة مُقاطعة (فوجيان)وهي من المدن الجميلة في جنوب الصين، والتي تشهد نهضةً متسارعة في جميع المجالات، 
وما يلفت الأنظار هو عبق التاريخ الذي تزخر به هذه المدينة الجميلة، حيث يوجد بها حيٌّ جميلٌ يُعرف بـ(ثلاث حارات و7 أزقة) وهي شوارع تاريخية جميلة وبها أسواق تشبه الأسواق العربية القديمة كسوق الملح في صنعاء وسوق الحميدية في دمشق وسوق خان الخليلي في القاهرة وسوق جدة القديمة وسوق مطرح في مسقط وغيرها.


من القصص الجميلة في هذه المدينة، أنه عند بدء النهضة وفي صورة تعكس حالة التكافل المجتمعي، تبرّع الموظفون بمرتب شهر كامل من أجل بناء مطار المدينة للمساهمة في تنميتها وانفتاحها على الآخرين.


قضينا في هذه المدينة الجميلة يومين تعرفنا فيها على متحفها ومعالمها، واستمعنا من قبل أحد خبراء الحزب في المقاطعة إلى محاضرة ضافية وشرح مفصل عن العلاقات الصينية العربية الممتدة لآلاف السنين والذي تطرّق فيها إلى زيارة الرحالة العربي الشهير (ابن بطوطة) للصين وكذلك للصحابة الذين بعثهم النبي الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى الصين لنشر الدين الإسلامي الحنيف ومن بعدهم التابعون، الذين لا تزال قبور بعضهم شاهدًا على ذلك حتى اليوم، وكذلك عن طريق التجارة القديم الذي كان يربط الصين بالدول العربية، وعن طريق الحرير الجديد الذي أعلنه الرئيس (شي جين بينغ) عام 2013 والذي يعد امتدادًا لطريق التجارة القديم، والمدى الذي وصلت إليه التجارة البينية العربية - الصينية في مختلف المجالات.

بعد ذلك غادرنا مدينة (فوجو) عن طريق القطار السريع متجهين إلى مدينة (تشانغتشو) برحلة استمرت حوالي ثلاث ساعات حيث يقطع القطار مسافة قدرها 300 - 350 كيلومتراً في الساعة ونحن لا نزال في المقاطعة نفسها، وعلى جانبي الطريق المزارع الواسعة والخضرة تكسو الجبال وعدد من المصانع وكذلك الأنهار الصغيرة والجسور.


زرنا موقع مشروع الإيثيلين الاستثماري الكبير بين شركة (سابك) السعودية وإحدى الشركات الصينية في منطقة (غولي) والذي تمتلك فيه الرياض نسبة 51 % وهو مشروع استراتيجي للطاقة من المقرر افتتاحه في مارس 2026م.

وصلنا إلى مدينة (شيامن) الجميلة، وهي إحدى أكبر أربعة موانئ في الصين، وبها يوجد مركز وشركة إنتاج بطاريات الليثيوم التي تأسست عام 2001 وهي رابع شركة في العالم لإنتاج الطاقة البديلة، للتعرف على تجربة تعزيز تطوير إنتاجية عالية الجودة للطاقة المتجددة.

زرنا في هذه المدينة جزيرة (جولانغيو) البالغة مساحتها 1,8 متر مربع وهي جزيرة تاريخية جميلة تأسست قبل أكثر من مائتي عام ويسكنها أكثر من عشرين ألف مواطن من عدد من دول العالم، ويسمح للآلاف بزيارتها يوميا، عن طريق العبّارات، تشتهر بشواطئها والممرات المتعرجة والهندسة المعمارية المتنوعة، كما اشتهرت بالأدب والثقافة والموسيقى وفيها متحف ومعرض خاص بذلك.

في اليوم الثاني زرنا قاعدة الابتكار لشراكة الثورات الصناعية الجديدة لدول الـ (بريكس) واستمعنا إلى شرح مفصل عن الإنجازات التي حققتها المجموعة ومشاريعها المستقبلية التي تصب في خدمة شعوبها.

في العاصمة بكين، كان البرنامج أيضًا مليئًا بالزيارات، فقد زرنا متحف الحزب الشيوعي الصيني الجديد، والذي يروي أحداث أكثر من مائة عام، منذ اندلاع الثورة الصينية ضد الاحتلال الياباني والتضحيات الجسيمة التي قدمها الصينيون لتحرير بلدهم والتي تجاوزت خمسة وثلاثين مليونًا قدموا أرواحهم في سبيل الانعتاق من الاحتلال والذهاب نحو المستقبل، مرورًا بالحرب الأهلية التي استمرت ثلاث سنوات وانتهت بانتصار الحزب الشيوعي، حتى إعلان استقلال الصين في 1 أكتوبر عام 1949 على يد الرمز (ماو تسي تونغ) ورفاقه الأبطال والحفاظ على الصين موحدة، والانتقال إلى عصر النهضة التي انطلقت عام 1978م وصولاً إلى النهضة الحديثة التي يقودها الرئيس (شي جين بينغ).

وفي هذا المعرض، شهدنا فيلمين بتقنية الـ(4D) رباعية الأبعاد، حكت ما وصلت إليه الصين من نهضة اقتصادية واجتماعية وعمرانية وصولاً إلى الفضاء.

وضمن وجودنا في (بكين) زرنا (سور الصين العظيم) إحدى عجائب الدنيا السبع والمَعْلَم الوحيد على الأرض الذي يُرى من سطح القمر، والذي يحكي حضارة عمرها أكثر من أربعة آلاف عام، حيث يقول الصينيون: إن طوله يتجاوز 5000 آلاف كيلو متر، تم بناؤه في القرن الثالث قبل الميلاد بهدف حماية الحدود الشمالية للصين من هجمات قبائل (الخوينجو) ومتوسط ارتفاع السور 7 أمتار وعرضه من 4 - 9 أمتار مع وجود نقاط حراسه بين كل 500 متر..

أما الختام فكان المسك ذاته، حيث تشرفنا بزيارة جامعة بكين العالمية للغات، وتحديداً قسم اللغة العربية، حيث استقبلنا نائب رئيس الجامعة البروفيسور (ليو سينغ لو) وعميد الكلية البروفيسور (تشيويه تشينغ قوه)، والبروفيسورة  (يو مي)، وعدد من الأساتذة وطلاب الدراسات العليا وطلاب من البكالوريوس، بكل ترحاب وبطريقة جميلة للغاية، حيث كتبوا في لوحات صغيرة، حِكما عربية لكل شخص في الوفد، وأقاموا حفلاً خاصًا بنا، قدَّم فيه عدد من الطلاب مقطوعاتٍ شعريةً باللغة العربية للشاعر (أدونيس) ومعزوفتين موسيقيتين (عربية وصينية، وفقرة للخطين العربي والصيني، كما فُتِح بابُ النقاش وتبادلنا أطراف الحديث حول اللغة العربية وجمالياتها، ولمسنا أشياء جميلةً من بينها اندفاع المئات من الطلاب الصينيين لتعلمها، والاهتمام الكبير من الحكومة الصينية الصديقة بتعليم اللغة العربية، كونها أداة الوصل الرئيسية بين الأمم، حيث تخرج من هذه الجامعة أكثر من أربعمائة سفير وثلاثة آلاف مستشار، بينهم أربعون سفيراً في الوطن العربي، وهذا يؤكد عمق العلاقات العربية الصينية، وحرص الأصدقاء على تعزيزها وتطويرها.

رحلة جميلة ورائعة، ستظل محفورةً في الذاكرة، والأجمل ما فيها هو التعرف على أصدقاء صينيين جدد، بالإضافة إلى التعرف على عدد كبير من السياسيين والدبلوماسيين والباحثين والإعلاميين الشباب من الدول العربية جمعاء، والذين يمثلون إضافة نوعية إلى رصيد الإنسان.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية