الأضرعي.. وخطاب الكهنوت!
تهربت مراراً رغم الإلحاح الذي يتقد في أعماقي من الوقوف وقفة تأمل وإشادة بجهد جبار يبذله رجل جمهوري معتق بحجم الأضرعي، حتى واتتني الفرصة إبان اندفاع قناة الهوية الحوثية، لنشر فيديو كليب ينال من فن الأضرعي المحطِّم لخرافة السلالة ومشروعها التدميري، فكان الفيديو فضيحة مدوية للقناة ومالكها وطاقم العمل ومخرجه لدرجة تبعث القرف فنياً وموضوعياً، وبرداءة وابتذال لا يمكن تخيلهما.
كان هذا مبرراً عندي للكتابة، فلست من شريحة النخب التي تنظر إلى مثل هذه المواضيع بازدراء وتسطيح وتتجاهل مفعوله وتكتفي بتوصيف الوضع بأنه صراع بين فئتين الأولى ثيوقراطية فاشية عنصرية والثانية بيروقراطية براغماتية راديكالية، هذه اللغة الميتة عاجزة عن تقدير فداحة اللحظة وأهوال معضلاتها، فأنا في مثل سياقنا اليمني المتأزم أنجذب إلى اللغة الحية المباشرة التي يقدمها الأضرعي في برنامجه، ومدفوع للاعتراف بفعل وطني متجسد فنياً، فلعدة سنوات لم يُخلص فنان أو مثقف أو مبدع يمني إزاء هموم وطنه كإخلاص الفنان محمد الأضرعي الذي حمل على عاتقه مهمة نسف الخطاب الكهنوتي الإمامي وتفكيك أبعاده وفضح جذوره وكشف مساوئه وعنصريته.
ليس من اليسير تفكيك خطاب أصولي متطرف في عنصريته وسلوكه، متعصب في فكره ومنطقه، متشعب في توجهاته، متشابك في تغلغله مع ثوابت دينية وقيم اجتماعية وثقافة شعبية وأوهام سياسية، لكن الأضرعي قدم خطاباً جمهورياً مضاداً جريئاً منطقياً معريّاً البنى الجذرية للخطاب الإمامي والمعتقدات الشائعة المتفشية والمظاهر التي طغت بناءً على ضوء تلك البنى، حتى لا يكون خطابه هشاً أو سطحياً يتلمس المظهر الخارجي البارز لخصمه وإنما يحفر في منابته وكيفية تفشيه حد بلوغه مبلغ الثوابت وإجبار الآخر على تقبل وابتلاع تلك البلايا وتقديم واجب التضحية لأجلها والذود عنها.
ما يقدمه الأضرعي ليس فناً ساخراً أو فكاهياً لغرض التسلية أو الترفيه وإنما كوميديا سوداء تقاوم وتناوئ وترفض وتنفر وتستهجن وتستنكر الوجود الحوثي، تحاكي أفكاره وتجسد ممارستها كسلوك وفعل واقعي بصورة مباشرة كما هي في مناطق سيطرة السلالة.
أداء تمثيلي هادف صارخ وكاشف يولّد ردة فعل إيجابية ينبعث تأثيرها عند المشاهد ويعبّر عما في نفسه التي عجزت عن إظهار ردة فعله تجنباً لقمع المليشيات وهروباً من مواجهتها.
ما يجعل المحتوى الذي يبرزه الأضرعي خطاباً وطنياً هو بُعده عن تبني ميول حزبية أو وجهة نظر سياسية أو إيديولوجية، وانحيازه الكلي لقضية وطنية جوهرية وتنشغل بهوية اليمن ككل بتاريخه وحضارته، بقضاياه المصيرية وقلقه الوجودي وصراعه الأزلي مع الإمامة كفكرة سياسية اصطفائية والكهنوت السلالي كطبقة اجتماعية متعالية ساعية للتحكم باليمن أرضاً وإنساناً.
ولذا؛ فإن التجسيد التمثيلي الملهم الذي يقدمه الأضرعي يحتل قيمة وأهمية قصوى ملحة في ثنايا المعركة الوطنية؛ فقد كسر ناموس خرافة الولاية والغدير والاصطفاء، ونسف الإجلال والتبجيل والتأليه والصنمية التي تضفيها الجماعة الحوثية على رموزها الدجالين، وإظهار السلبيات الموحشة التي سيفرزها تفشي هذه الأفكار وتقبلها من المجتمع الذي يجهل تبعات صمته إزاء التطييف الإمامي والتشيع السلالي، كما أنه يمثل مواجهة مباشرة لمنابر التضليل والتدليس الذي تبثه وسائل الإعلام الحوثية وتستدرج العامة والخاصة إلى مستنقع العبودية والانحراف عن قيم الدين العادلة ومبادئ الجمهورية والديمقراطية، واقتياد الشعب إلى هاوية الهلاك والموت في سبيل الاستعباد السلالي المستغل للدين كذريعة لاستغفال أتباعه ومنحهم صكوكاً بالجنة والغفران.