الدكتور صادق القاضي يكتب لـ " 2 ديسمبر " : كيف تبدو إسرائيل من نافذة "إسرائيل شاحاك"؟
كيهودي ولد في بولندا في ذروة السُّعار النازي الألماني بقيادة "الفوهرر"، وقضى طفولته في معسكر الاعتقال النازي في "بلسن".. شهد "إسرائيل شاحاك" (1933: 2001م) الجرائم والإبادات الجماعية العنصرية المروعة ضد قومه هناك، وصولًا إلى محارق "الهولوكوست" الشهيرة التي أودت بحياة ملايين اليهود في أوروبا، وكان أحد الناجين منها. ورغم أنه شهد تلك الأحداث كطفل في العقد الأول من عمره، فقد ظل يذكر ذلك الرعب الوجودي حتى آخر لحظة من حياته.
يشبه الأمر ما يتعرض له أطفال "غزة" اليوم. لا شك أن معظم هؤلاء تعذبوا خوفًا وجوعًا، وفقدوا بعض أقاربهم تحت القصف، ويحملون كراهية بلا حدود للقتلة، ولن يشبوا أسوياء كغيرهم من البشر، وسيكبرون ويكبر معهم الحقد والرغبة في الانتقام.. إن بين ما حدث لليهود في أوروبا بالأمس، وما يحدث للعرب في فلسطين اليوم، تقاطعات شاسعة لا تخفى على العين، وبالذات أعين من لا يريدون للعذابات الإنسانية أن تظل سرمدية.
مثل كثيرين غيره، هاجر "شاحاك" إلى فلسطين، التي شاء النظام الدولي حينها أن يجعلها "وطنًا قوميًا ليهود العالم"، كـ"أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"!.. ومثل غيره، "خدم في الجيش، ثم في الاحتياط العسكري لفترات قصيرة في فصول الصيف، ولعدة سنوات، كما يقتضي القانون الإسرائيلي"، ولا ندري بالضبط هل شارك في الحروب الوحشية ضد الفلسطينيين، هل شاهدهم يُهمشون ويُقتلون بعنصرية، كحيوانات، كما كان يحدث لليهود في أوروبا؟!
ربما.. المؤكد فقط، أنه صار لاحقًا من العقول والأصوات اليهودية المثقفة المؤثرة الجريئة النادرة التي أدركت حجم الفاجعة التي حلت بالشعب الفلسطيني، ومن أنبل الذين رأوا في الممارسات الإسرائيلية الهمجية ضد الفلسطينيين، معادلًا موضوعيًا لما كانت تفعله ألمانيا هتلر ضد اليهود، وعلى هذا الأساس اعتمد مصطلح: "اليهودية النازية" "لوصف طبيعة الطرق التي يستخدمها الإسرائيليون من أجل إخضاع الفلسطينيين وقمعهم".
ليس سهلًا على إسرائيلي آخر أن يفعل المثل؛ خوفًا من ردود أفعال قمعية كثيرة في بلد محكوم بأيديولوجيا شمولية. وحسب تعبير المفكر الفلسطيني الأمريكي الشهير "إدوارد سعيد": ما ميز شاحاك عن غيره "كان أنه وحده عبّر عن الحقيقة دون بهرجة، ومن دون مراعاة لاحتمال ألا يكون قول هذه الحقيقة- صراحةً- أمرًا حسنًا لليهود أو إسرائيل". وهكذا صرخ شاحاك محتجًا ضد إسرائيل، في المحافل المحلية والدولية.
قد يبدو أننا نتحدث هنا عن "يهودي" "انحاز" إلى الحق الفلسطيني. والواقع أن المفكرين والعلماء والمخترعين الكبار، لا يصح نسبتهم إلى دياناتهم، أو تفسير آرائهم الموضوعية بأنها انحياز إلى طرف، بقدر ما هي انحياز إلى الحق والحقيقة، وشاحاك بهذا الاعتبار: عالم ومفكر ومؤرخ إنساني عالمي كبير. وبالمناسبة، كان شاحاك يعترض على ما يعتبره حماقات من قِبل الفلسطينيين، وكان شديد الانتقاد لمنظمة فتح؛ كان يريدها أن تكون أكثر وعيًا بقضيتها وجدية وعزمًا في تمثيلها، كما انتقد عدم ديمقراطيتها وتقليدية المجتمع الفلسطيني.
وكان من الطبيعي أن تحاول الدوائر الإسرائيلية ونظائرها الأمريكية الضغط عليه؛ بل وتشويه صورته، حتى أنها اتهمته بـ"معاداة السامية"، وهو اليهودي أصلًا! وحدث في أمريكا أن تم نشر خبر وفاته عبر الصحيفة واسعة الانتشار "واشنطن بوست"، قبل وفاته بعقود. ورغم قيامه بزيارة الصحيفة بشخصه، ليثبت أنه حي، امتنعت الصحيفة عن تصحيح خبر الوفاة الكاذب، كما لو أن وفاته أمنية، أو نعيه شكل للاغتيال المعنوي!
لكن الرجل ظل حيًا في الأوساط الفكرية والثقافية والسياسية في إسرائيل والغرب؛ بل أصبح صوته جهورًا ورأيه مؤثرًا أكثر؛ كونه كان نزيهًا يكتب ما يتحقق منه بنفسه، وكان موضوعيًا لا يُخضع رؤيته لأي أيديولوجية أو عقيدة معينة، ويكتب بجرأة وشجاعة، بعيدًا عن كل اعتبارات مؤثرة.. وبكتبه وكتاباته، شارك شاحاك بشكل كبير في تعرية الحقيقة الإسرائيلية للعالم الغربي بالخصوص.
وبخلاف جُل المفكرين والكتاب في إسرائيل، خاض شاحاك في السياسة كمفكر مستقل، ومؤرخ عتيد، وصاحب رأي منهجي حر. وفي مقابل أن اليهود وظفوا بكفاءة معاناتهم من النازية في استقطاب تعاطف العالم معهم، وازن شاحاك بين النازيتين: الهترلية والإسرائيلية، وأكد أن المعاناة ليست حكرًا على فئة معينة من الضحايا؛ الفلسطينيون ضحايا أيضًا ويعانون بالمثل. وإجمالًا، فقد حدد الرجل مشكلة إسرائيل بالتالي:
"إنها دولة قائمة على أسس دينسياسية، ومحكومة بفلسفة أصولية عنصرية، وتسعى- بدوافع وأهداف أيديولوجية- إلى التوسع الإقليمي، والحروب الحتمية الناتجة عن هذه الأهداف، وكلما أصبحت إسرائيل أكثر يهودية، كانت سياساتها تسترشد بالاعتبارات الأيديولوجية اليهودية، أكثر مما تعتبر بالاعتبارات العقلانية.. وهذا ما يجعلها خطرًا على شعبها واليهود الآخرين، وجيرانها في المنطقة".
هذه فحوى ما قاله ذلك المؤرخ والمفكر الكبير في مقدمة كتابه الشهير: "التاريخ اليهودي- الديانة اليهودية- وطأة ثلاثة آلاف سنة"، قبل دخوله في تفصيل جوانب إشكالية هذا النظام وفلسفته وأيديولوجيته السياسية، كمحصلة تاريخية، تم مزجها بالتجليات المعاصرة للصهيونية، وفي تجسدها كرؤية تحكم سلوكيات وممارسات إسرائيل العنصرية تجاه بعض اليهود والفلسطينيين، وحتى عرب إسرائيل.
وكاحتياط أخير: هذا الابتسار لا يغني عن قراءة هذا الكتاب القصير المهم، على الأقل من أجل فهم المشكلة الإسرائيلية التي نواجهها، كما هو مهم أكثر لفهم أنفسنا ومشاكلنا كطرف آخر في الصراع، فلدينا بالمثل نفس المشاكل تقريبًا، وبالذات فيما يتعلق بفصائل الإسلام السياسي الشيعي والسني، كأنظمة وتنظيمات مسلحة، وظواهر أصولية أيديولوجية، تتمدد بشعارات انتهازية تتعلق بهذه القضية الإنسانية العادلة، وحاق خطرها على العالم العربي قبل إسرائيل، فأسقطت أنظمة، ودمرت دولًا، وشردت شعوبًا، وما زالت شهيتها مفتوحة للمزيد من الخراب والدمار.