قال لي أحد الأصدقاء مرة: لماذا لا تكتب عن الزعيم "علي عبد الله صالح"؟ قلت له: سأكتب عنه ربما بعد عقود من وفاته. وأضفت: لا يمكن الكتابة بنزاهة عن شخصية ما تزال مؤثرة بقوة على الحياة السياسية الراهنة، كون هذا التأثير ينعكس بشكل أو بآخر على الكاتب الذي لا يمكنه الكتابة بموضوعية إلا من خارج دائرة الصراع والتأثيرات والتحيزات.

كان ذلك بعد تنازل صالح عن السلطة، كان حينها ما يزال هو الرجل الأكثر تأثيراً في الحياة السياسية، والواقع أنه كان وظل كذلك. طوال حوالي 40 عاماً من صناعة القرار، و"الرقص على رؤوس الثعابين"، في الرئاسة، وخارجها، وخلال حقبةٍ هي الأكثر كثافةً بالانكسارات والانتصارات، والأزمات والصراعات والتحولات المحلية والإقليمية والدولية العاصفة.!

بل ما يزال الرجل، بعد رحيله، مؤثراً بقوة في الظروف اليمنية الراهنة، سواءٌ من خلال "حضوره": في حزبه "المؤتمر الشعبي العام" الذي ما يزال كبيرا مؤثرا فاعلا هنا وهناك.. رغم تشظيه. أو في الكيان السياسي والعسكري الكبير بقيادة ابن أخيه "طارق صالح" في الساحل الغربي، وكلاهما امتداد لشخصه ومدرسته.

أو بشكلٍ أهم، من خلال "حضوره" في الذاكرة السياسية والوعي الجمعي في اليمن، وهو "حضور" مقترن بـ"غياب" مأسوف عن واقع الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية العصيبة المأساوية الراهنة.. على امتداد اليمن:

الخوف والجوع والمرض والمعاناة والحقد والعنف والتشرذم.. هي سيدة الموقف الراهن في اليمن: سقطت الدولة، سقط الدستور، سقطت الديمقراطية، سقط الجيش، سقطت المؤسسات، سقط النظام الجمهوري، سقطت الوحدة الوطنية، تمزق البرلمان، تمزق النسيج الاجتماعي، تمزقت الجغرافيا، وتحولت البلاد إلى أرخبيل من الجزر المتناحرة..

كل هذا الضياع والسقوط والتمزق والتردي.. يذكّر باليمن الذي كان.. بالرئيس صالح. الذي كان الشعب ينعم بهذه المكتسبات الوطنية الكبرى التي تحقق أهمها في عهده.. لقد كشفت الأيام أنه كان رقما صعبا من الصعب التعويض عنه، كحليف أو خصم، أو شريك، أو نقيض، أو ككيان ودور متماسك في مشهد بالغ التشرذم والتشظي والعدمية.!

كنا نكتب بنزاهة ضد هذا الرجل وهو في السلطة، بل ننتقده في الصحف الرسمية للدولة، بل في الصحيفة الخاصة بحزبه "المؤتمر"، ونحن ندرك أننا نتكلم عن سياسة شخص شغل منصب الرئاسة، خلال المدة الأكبر من العهد الجمهوري، وفق تجربة مميزة في تحدياتها وإيجابياتها وحتى بسلبياتها.. كمحصلة تجعله الشخصية الأكثر أهمية وتأثيراً في تاريخ اليمن الحديث.

كاحتياط من سوء الفهم: لم يكن الرجل ملاكا أو شيطانا، كما لم تكن تجربته فردوسية أو جهنمية، بخلاف ما تطرحه الانطباعات الذاتية، والأحكام الجاهزة، كمحاولات ساذجة أو مغرضة لاختزال شخصية الرجل وتجربته في هتافات وهشتاجات قصيرة مادحة أو قادحة، وعلى كل حال، تقييم هذه التجربة مسألة تخص الباحثين والمؤرخين.. لا المراهقين والهواة.. 

من السهل على البسطاء تبسيط هذه التجربة في بضع كلمات، لكن من الصعب للغاية الكتابة المسئولة عن تجربة كبيرة بهذا الكم والكيف والأهمية الاستثنائية، لأسباب تتعلق بكونها تجربة طويلة كثيفة معقدة.. حافلة بالأحداث الكبرى، والتحولات الأعمق على مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والفنية.. في اليمن. 

من الصعب أيضاً -على عكس ما قد يبدو للحمقى- تحويل شخصه إلى كبش فداء لخطايا النظام السابق الذي كان طوال عهده تحالفاً بين قوى عسكرية وقبلية ودينية معروفة. أمّا الأصعب على الإطلاق، لدرجة المستحيل، فهو تجاوز شخصه وعهده ببعض البدائل الراهنة التي كانت هي الجانب الأسوأ في النظام القديم.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية