الدكتور صادق القاضي يكتب لـ "2 ديسمبر ": الظواهر الانتهازية.. و"فوبيا الإمارات"!
ربما لا يوجد ما هو أحقر وأقذر من تحويل القضايا العادلة، والمطالب النبيلة، والمظالم الفاجعة.. إلى أسلحة سياسية لتصفية الحسابات الانتهازية، واستقطاب الأتباع، والتحريض ضد الخصوم.. خاصةً في ظل ثقافة عامة، لا تزال، ولو جزئيًا، ثقافة شفاهية، تثق بالمزاعم لا الأرقام، وتصدق الإشاعات لا الوقائع، وتنجر وراء العاطفة لا العقل!
وهذا- للأسف- هو الحاصل في السياق العربي والإسلامي الحديث منذ عقود طويلة، وبشكل خاص، تحت شعار "القضية الفلسطينية"، من قِبَل أنظمة وتنظيمات شمولية، جعلت منها ورقة للمزايدة والمساومة والمناكفة والابتزاز.. ضد أطراف تقوم بواجباتها الدينية والقومية والإنسانية بصمت، وبدون منٍّ ولا أذى.
وبالأخص في الظروف الاستثنائية العصيبة، كـ"حرب غزة" الراهنة، أهل غزة على حافة الفناء و"محور الممانعة": "إيران" و"قطر"، و"تركيا"، وأتباعها.. جعلت من هذه المأساة الإنسانية مجرّد عنصر مساعد لتحفيز وتسريع هذه العملية الانتهازية التي تخدم أجنداتها التقليدية التوسعية، على حساب "مصر" و"السعودية" و"الإمارات العربية المتحدة".
لا حاجة هنا للحديث عما قدمته مصر والسعودية والإمارات.. للقضية الفلسطينية، وما تفعله حاليًا، كلٌ بطريقتها، لوقف الحرب ورفع الحصار عن غزة، وما بذلته وتبذله من جهود ومساعدات، كانت، وما تزال مهمةً بشكل وجودي في بقاء وصمود الشعب والسلطة والقضية الفلسطينية العادلة.
ومع ذلك، يتم استهدافها بالحملات الإعلامية المسعورة، أكثر مما يتم استهداف إسرائيل. منسوب وحرارة التهجم والتحريض الذي تضخه مختلف وسائل إعلام محور الممانعة ومن إليه، على هذه الدول الثلاث، ارتفع بشكل غير مسبوق، وبالذات ضد "الإمارات" التي تواجه اليوم أعنف حملة إعلامية مناوئة في تاريخها!
وبطبيعة الحال هناك من يدافع عنها. لكن؛ دعونا ننظر للمسألة من خارج دائرة التحيزات: "الإمارات" ليست جمهورية أفلاطون، لكنها بالتأكيد ليست دولة مارقة، شريرة بشكل مطلق، كما تحاول تصويرها بإصرار شديد وسائل الإعلام المعادية، والأجندات والبروبجندات المشبوهة التي تقف وراءها!
لم تعد هذه الحملات التنميطية تنطلي على الكثيرين. لكن؛ مع ذلك، هناك شرائح تتأثر بها. كثير من الدراويش التابعين للأنظمة والتنظيمات الممانعة هذه، أو حتى بعض البسطاء السذج المستلبين من وسائل إعلامها يرون في الإمارات بعبعًا يثير فزعًا مبالغًا فيه وغير مبرر، كما لو كانت الشيطان ذاته!
نعم، بالضبط، هي "فوبيا" مرَضِية، لا أساس منطقيًا لها، بحيث يمكن بثقة إدراج مصطلح "فوبيا الإمارات" كمصطلح جديد إلى معجم الأمراض النفسية والعاهات السياسية الحالية الشائعة في الأوساط المستلبة من قِبل الوسائل الإعلامية التابعة للقوى الشمولية وجماعات الإسلام السياسي الشيعي والسني.
وكأيّ "فوبيا"، تستند هذه "الفوبيا" على مجرد انطباعات موجهة وإشاعات زائفة، مثل: القول إن "الإمارات" تحتل اليمن!، أو إنها منحازة لأمريكا وإسرائيل ضد الشعب والقضية الفلسطينية، وربما إنها أصبحت تدير المأسونية العالمية، وتريد أن تجمع الأديان الإبراهيمية في كيس واحد، وتقدم هذه الخلطة كدين جديد على حساب الإسلام!
هناك ترهات كثيرة من هذا القبيل. لكن؛ على الصعيد السياسي، ومن الآخر هنا: نحن نتجاهل عادةً حقيقة أن "الإمارات" دولة حرة مستقلة ذات سيادة.. ومن حقها في سياساتها الخارجية أن تهادن وتمانع، وتقبل وترفض، وتتعاون وتتهاون.. وتنحاز حتى إلى الشياطين، أو تنزاح حتى عن الملائكة، أو العكس، وبما يخدم مصالحها التكتيكية والاستراتيجية.
هذا حق سيادي بديهي لها، وعلى المتضرر اللجوء إلى القضاء الدولي، أو بشكل ساخر إلى "قناة الجزيرة" و"الميادين" و"المسيرة"، وغيرها من وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، الموالية للإمبراطوريات الإعلامية التابعة للنظامين: الإيراني والقطري، والجحافل الإعلامية الحاشدة للتنظيم الدولي لجماعة "الإخوان المسلمين".
لم تكن وسائل الإعلام هذه- كعادتها في تناول قضايا أخرى كثيرة- أمينةً في صياغة المفردات ذات العلاقة، التواجد الإماراتي في اليمن لا يختلف عن التواجد السعودي، باستثناء خلافها مع الإخوان، وهذا يفسر اتفاق الطرفين (الحوثيين والإخوان) في الحقد عليها، والغضب والحملة ضدها.
وفيما يتعلق بعلاقاتها بأمريكا وإسرائيل؛ للإمارات علاقة وطيدة بأمريكا، كمعظم دول العالم، وفتحت علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل"، على غرار مصر والأردن وتركيا على الأقل. لكن؛ في أسوأ الأحوال، "الإمارات" ليست تابعة لـ"أمريكا" أكثر من "قطر"، ولا مطبّعة مع "إسرائيل" أكثر من "تركيا".
ومع ذلك؛ يتم "التعامس" عن تركيا وقطر، وأمركة وصهينة "الإمارات". وعمومًا: سياسة الإمارات الخارجية هي نفسها تقريبًا سياسة السعودية، وإن كانت جهودها ودعمها لحلفائها أكثر تنظيمًا وفاعلية وأقل ضجيجًا، وهذه النقطة الأخيرة ربما هي السبب في ارتفاع وتيرة الحملات الإعلامية ضدها من قِبل مختلف الأطراف المتضررة في المنطقة.
في كل حال: الإمارات اليوم ليست في ورطة، جرّاء هذه الحملات الإعلامية؛ فالنظام قوي ومتلاحم بالشعب، والأزمة الحقيقية هي التي يعيشها الرأي والفكر العربي العام في جزء كبير منه، بسبب التلوث الأيديولوجي الذي تسبب به المد الجارف لفصائل الإسلام السياسي، بحيث بات كثيرون يعتقدون أن ما أقنعهم مشايخهم به، هو المعيار الحقيقي لمعرفة الحق والباطل والخير والشر على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
من المهم لهؤلاء أن يتحرروا من هذا الوهم، وأن يعرفوا أن من الحماقة النظر إلى مواقف الإمارات كانحرافات عن هذه "الأصول" التي تم إقناعها بها، فـ"الإمارات" "دولة" مدنية مؤسسية حديثة.. وليست منظمة لتلبية ما يطلبه الناشطون في الفيسبوك وتويتر، وهي دولة محكومة بـ"دستور اتحادي"، لا بـ"اللائحة الداخلية لجماعة الإخوان المسلمين"، وقراراتها السيادية يصدرها الرئيس "الإماراتي"، لا "الإمام الخميني"، وسياساتها الداخلية والخارجية يرسمها "المجلس الأعلى للاتحاد"، لا "مجلس تشخيص مصلحة النظام" في طهران.