الدكتور صادق القاضي يكتب لـ "2 ديسمبر ": في رحيله المؤسف.. "عبد الله الحضرمي" عنوان تجربة فذة وخالدة
كما ينهار جبل، أو يجف نهر، أو ينكسر حصن حصين.. رحل الإنسان العظيم، والصديق الحميم "عبدالله الحضرمي"، إلى جوار ربّه. هكذا فجأةً، كوقع صاعقة.. رحل مبكراً بطعنة نجلاء غادرة من الزمن.
هي طعنة نجلاء غادرة أيضاً، على مستوى أهم وأعم، للحرف الذكي النبيل، والكلمة الحرة الشريفة، والصحافة المحترمة البناءة، والقضية الوطنية العادلة.
من يصدق أن يصبح صاحب هذه الظاهرة الإنسانية العظيمة أثراً بعد عين؟!
من يصدق أن يترجل هذا الفارس العتيد فجأةً عن جواده، في ذروة حماسه وعطائه وكامل همته وشدته، وفي خضم المعركة الوجودية التي يخوضها في سبيل قضيته وشعبه ووطنه!
"سقطت قلاعٌ قبل هذا اليوم..
لكن الهواء اليوم حامض"!!
الموت هو الحقيقة الوحيدة التي نرفض تصديقها في الحالات الاستثنائية النادرة عندما يتعلق الأمر بأقرب الناس منا، أو أهمهم بالنسبة لقضايانا وتطلعاتنا. وبالنسبة لي كان الفقيد حاضراً بقوة على الجانبين.
كان أحد أحب وأعز وأنبل وأنزه من عرفتهم وعشت وتعاملت معهم على الإطلاق، كما كان بالنسبة لي ولكثيرين رقماً صعباً على الصعيد الإعلامي والثقافي والسياسي والفكري.. وعزاؤنا أنه توفي وهو يذود عن القيم التي نؤمن بها، والقضايا المصيرية التي نعمل من أجلها.
عزاؤنا أنه توفي هناك في المهجر، وهو يذود عن كل شيء جميل وحر وواعد.. ينشر الوعي، ويبشر بالحرية والكرامة وإسقاط الكهنوت واستعادة الدولة والنظام الجمهوري، ويدعو إلى العقل والحكمة في التعاطي مع قضايا وطنه وعلى مستوى المنطقة.
وعلى هذا كتب منشوره الأخير:
"نعيش على أعصابنا بانتظار الحرب العالمية الثالثة، الأوضاع تتدحرج نحوها سريعاً، ولا مؤشر على عقلٍ يلجم هذا الانهيار الدماغي للقادة".
ثم.. فجأةً، قيل: مات!
انهار قلبه قهراً على شعبه ووطنه وأمته التي أصبحت غنيمةً لتجار الحروب والأزمات والمعتقدات والشعارات الانتهازية.. ونهباً للقراصنة الذين خطفوا القضايا النبيلة العادلة، ويقودون المنطقة باسمها إلى الجحيم!
يا للفاجعة المباغتة، التي طالت الجميع، والمصاب الجلل الذي حلّ بأناسٍ كثيرين، كان الفقيد بالنسبة لهم أخاً أو أباً أو رفيقاً أو نبع إلهام، أو مصدر وعي، أو كاتباً سياسياً عقلانياً بارعاً، أو حتى.. خصماً عاقلاً شريفاً.
كما كانت وفاته خسارة فادحة لقيم وكيانات وتوجهات وظواهر.. كثيرة مهمة على مستوى اليمن كلها، منها:
- الصحافة اليمنية التي كان الفقيد جذعها المحك وفصيلها المحنك ومن أهم أرقامها النوعية الصعبة.
- الصحافة الحزبية، التي قدّم الراحل أحد أرقى نماذجها في كتابته وإدارته لمواقع حزب "المؤتمر الشعبي العام".
- حزب "المؤتمر الشعبي العام" الذي كان الرجل من أهم قياداته الإعلامية والثقافية التنويرية.
- اليمن التي كان الرجل من أبر أبنائها وكوادرها الوطنية الطليعية الفاعلة والمؤثرة.
- القضية اليمنية التي كان الراحل من حملتها وفرسانها والمعبرين والمدافعين عنها.
وبالتالي: لم يكن يوم الثلاثاء الأسود: 24 أكتوبر 2023م يوماً عادياً، بالنسبة لتجربة إعلامية وثقافية وإنسانية وحزبية تنويرية وتطويرية، فذة ومؤثرة وملهمة، كالتي صنعها الفقيد طوال أكثر من ثلاثين عاماً، وكان بإمكانها أن تقدم الكثير.
الموت فقط، وضع حداً لهذا العطاء الخصب، خطف الرجل، لكنّ التجربة ستظل حية فاعلة بعد صاحبها، من خلال الأثر العميق الذي خلفه وراءه في قلوب وعقول محبيه وزملائه وقرائه، وهم كثر للغاية بما يفسر هذا الزخم الكثيف الحزين في نعيه وتأبينه.
قيل الكثير والكثير، وربما من المهم هنا إلقاء بعض الضوء على أهم المحطات في حياة الفقيد الراحل:
"عبد الله الحضرمي" (1967- 2023م):
• من مواليد ١٩٦٧م في نقيل العقاب مديرية حبيش، عاش طفولته وبداية شبابه في منطقة خصالة بمديرية العدين محافظة إب، ودرس في مدرسة النور بمدينة العدين.
• بدأ مشواره الصحفي أوائل التسعينيات، ونشر كتاباته الثرية في عدد من الصحف المحلية.
• ثم عمل في صحيفة "الميثاق"، وكان للأستاذ أحمد الشرعبي، رئيس التحرير آنذاك، فضل اكتشاف قدراته ومواهبه الاستثنائية، والاستفادة منها في تطوير خطاب صحيفة الميثاق بتعيينه مديراً لتحريرها.
• ثم عمل رئيساً لتحرير موقع "المؤتمر نت". من سبتمبر 2003 إلى أغسطس 2005م، وقد أصبح الموقع بقيادته الموقع الأول في اليمن من حيث عدد القراء بمقياس اليكسا العالمي آنذاك، كما تعرض مقر الموقع، وهو فيه، في: 13/ 1/ 2005م لاستهداف إرهابي واحترقت الشقة الأمامية من المكتب.
• ثم رأس صحيفة 22 مايو. وكان آخر منصب شغله هو رئيساً لتحرير صحيفة "اليمن اليوم" منذ 22 مايو عام 2012م حتى العام 2017م.
• كانت معركته الإعلامية الأخيرة في اليمن خلال انتفاضة 2 ديسمبر 2017، ذوداً عن قيم الدولة والجمهورية والديمقراطية، إلى أن اقتحمت المليشيا الانقلابية مقر صحيفة اليمن اليوم، ونهبت محتوياته وممتلكات الصحيفة، كما نهبت بيته وسيارته، وتم تهديده بالقتل، لينتقل بعدها إلى عدن ثم إلى العاصمة المصرية القاهرة "حاملاً حزنه على مآلات اليمن، ومصير الوطن المختطف".
لكنّ هذا لا يلخص كل شيء عن شخصية الفقيد الراحل، التي يمكن استكناهها جزئياً من بعض شهادات زملائه ومتابعيه، أذكر بعضها هنا كما وردت حرفياً:
"كان الفقيد الراحل صحفياً مؤمناً بالقضية الوطنية، وثابتاً على المبادئ الجمهورية والوحدوية التي سخّر لها قلمه طيلة حياته، غير آبه بما تعرض له من ملاحقات وتهجير على يد مليشيات الحوثي الانقلابية المسيطرة على المشهد السياسي في عاصمة اليمن صنعاء"، وقد "حدد بوضوح موقفه في مقارعة المليشيا الحوثية، ومشروعها الإمامي المتخلف، بالموقف والكلمة، حتى آخر لحظات حياته".
"كان رجلاً محترماً، وإنساناً نبيلاً، وشخصاً مهذباً، وصحفياً لامعاً، وصاحب ابتسامة دائمة، وذا قلب طيب، لا يحمل الضغينة والحقد حتى مع من يختلف معه"، و"كان- رحمه الله- رجلاً منفتحاً جداً، ويحترم ويدعم الإبداع والمبدعين في أي مجال".
"كان لقلمه الرشيق، ولغته البليغة، وأسلوبه الضافي الأثر الكبير في بلورة خطاب المؤتمر الشعبي العام السياسي والإعلامي". كان "رائعاً جداً في إدارته الفريق، بأفكاره المتجددة وعقليته المنفتحة، واستطاع مواجهة العقلية التقليدية لصحافة الحزب الحاكم "المؤتمر"، وانتهاج مسار "كنا نعمل خارج الفكر التقليدي للحزب الحاكم، فـ"أحببناه، وتعلمنا منه الكثير، كان يحرص على شراء المجلات الأجنبية ومتابعة المواقع الأجنبية، وتدارس تقنياتها وقوالبها الصحفية، وبالتالي نجح في إدارة أعقد الأزمات الإعلامية للمؤتمر خلال تلك السنوات، وبناء خط شبابي بعد أن كان الحزب يعتمد على المعتقين فقط لممارسة السياسة الإعلامية".
"كان عبدالله الحضرمي ناجحاً بكل المقاييس، فذاً في رسائله الإعلامية، من النوع الذي لا يمكن تخطيه". كان "يقدِّر الكلمة، ويحترم الرأي وإن اختلف معه". و"كان صحفياً مهنياً محترفاً يقرأ الأحداث بتمعن وفهم"، "كان نعم الأخ والصديق وزميل العمل الذي يعطيك الفرصة لتثبت نفسك وقدراتك، ولم يكن يمنع أحداً منا أن يظهر كفاءته بأي شكل؛ بل كان أيضاً يشجعنا ويطلب منا المزيد.. وكان التفاهم والحرية التي يتيحها لزملائه في الجانب المتعلق بالعمل الصحفي والمهني والأفكار والمبادرات أمراً يميزه عن غيره من الصحفيين على كثرتهم" .
"على مدار سنين من الكتابة اليومية. لم يقل لي.. اكتب.. أو لماذا كتبت.. أو ما رأيك بالكتابة في الموضوع الفلاني.. لم يحذف سطراً أو كلمة رغم أنه على رأس جريدة تصدر عن الحزب الحاكم، وزمن صحفي متعدد الأحزاب، ومتنوع الإصدارات الصحفية". "لقد كان الفقيد ابن مهنة من الدرجة الأولى، يتنفس الحرية في احترامه لقناعات الآخرين".