على صفيح تعزي ساخن تنشب حرب ضروس بين كل ما يمت للثقافة والفن والإبداع والأدب وبين موجة تطرف وإرهاب فكري وثقافي يتزعمها بعض المعتقين من رجال الدين وخطباء المنابر الذين يقومون بدور حراس الفضيلة القامعين لكل صوت إبداعي أو نشاط فني أو دور ثقافي ينبثق من بين براثن الحصار ويتمسك بالكلمة للتغلب على طوفان الرجعية والتطييف المحاذي على تخوم المدينة.

هذه الظاهرة المثيرة للتساؤل والحيرة والاستغراب تخفي وراءها تذمراً واستهجاناً حول انزياح هؤلاء المتشددين وعزوفهم عن القضايا الوطنية وتحديات اللحظة الراهنة، وتركيز طاقتهم للوقوف في وجه الثقافة وفرض أفكار التطرف والدعشنة، وإجبار العامة والخاصة على ضبط سلوكياتهم ورؤيتهم للحياة وفقاً للمنظور المتشدد والنظرة الدينية المتزمتة التي تقترب من نظرة السلالة الكهنوتية المؤيدة لتلك الأفكار الرجعية الصادرة من مدينة التنوير والثقافة تعز.

قد يجد هؤلاء المتنطعون باسم الدين بعض المريدين المؤيدين لخطابهم المتطرف، لكنهم لا يمثلون غالبية أبناء تعز، ولا يشكلون رقماً مقارنة بشريحة عريضة تنفر من هذا التوجه، وتدرك مخاطره، ولا تجهل قيمها ومبادئها الدينية والاجتماعية التي يُنظر إليها نظرة انحرافية، لأن أبناء تعز متمدنون ومثقفون ومتحضرون ومتسلحون بالعلم والفن والإبداع والموهبة، ومن الصعب كبح جماح ثقافتهم، ونسف وعيهم الوطني، وجرهم لحياة التطرف والتشدد والتبعية والوصاية، فقد تجاوزوا ذلك النمط من التفكير والسلوك، وتشربوا التعددية والقبول بالآخر والتعايش والتسامح والمعرفة.

يحاول مكتب الثقافة في تعز أن يقف بعزيمة ووعي في التصدي لتلك الموجة، محاولاً من حين لآخر تقديم العديد من النشاطات والمهرجانات الفنية والثقافية التي تربط المجتمع بالإبداع وتعزز يقينه بالثقافة وتثير شغفه بالفن وتنتشله من الاستسلام والغرق في مستنقع العنف والإرهاب، وفقدان الثقة بالوطن وقضاياه المصيرية التي يراد إشغالنا عنها وإبعادنا عن مبادئ الثورة والجمهورية، وانكبابنا في مسألة الرقابة على تفكير الناس وسلوكهم.

ومن ضمن التحديات التي تقف في وجه مكتب الثقافة شحة الإمكانيات وقلة الاهتمام من قبل السلطة والجهات المعنية، لكن مدير المكتب صاحب إرادة لا تعرف الهزيمة ولا ترضخ للتحديات، وتمضي قدماً في إثبات دور الثقافة وأهميتها وتفعيل الكثير من النشاطات والبرامج التي تتبنى الفاعلية التنويرية والتثقيفية لكسر هيمنة الحرب واختراق طوق الحصار وإبقاء تعز حاضرة ثقافياً رغم بؤس اللحظة وتعقيداتها.

لقد دفعني للكتابة هنا النشاط الأخير لمكتب الثقافة في تعز، والمتمثل بتوقيع كتاب "حنبات" للكاتب الساخر فكري قاسم، وقد خرجت بالكثير من  الدلالات من خلال هذا الحدث الثقافي حيث الجدية والاهتمام والتكريم للكتاب والكاتب الذي أبداه المكتب، وتدفق الجمهور وتدافعهم للاحتفاء بشغف وابتهاج بعد انقطاع علاقتهم بالكتاب منذ اندلاع شرارة الحرب، والأهم في كل هذا أن وعي المجتمع مشدود للإبداع، متماهٍ مع الثقافة، ومتيقن بأن الكلمة تظل هي جوهر الحياة ومنبع البقاء، ويعتبر حضوره الكثيف يوم الاحتقاء عبارة عن موقف جلي يترجم اختياره وانحيازه إلى جانب التنوير والثقافة ولا يميل إلى التطرف والانغلاق والرجعية.

وعليه، فإن الثقافة هي الإطار الذي يحمينا من الانحطاط والتخلف والهزيمة، وبها يمكننا استعادة وطننا ومكاسبنا الجمهورية، ولا يمكننا النجاة لو بعدنا عنها وبقينا معزولين عنها.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية