من يتأمل حجم تعقيدات المشهد السياسي اليمني، آنذاك، سيدرك عن يقين أن تأسيس حزب المؤتمر الشعبي العام في مطلع الثمانينيات كان قفزة حقيقية في نقل ماهية الفعل السياسي من طور الجهوية والقبلية والمد الديني إلى طور التنافس الديمقراطي وتقليص نفوذ القبيلة وإشراك المجتمع بكل أطيافه في صنع واقعه وقراره، وإطلاق العنان لحريته ونشاطاته الحزبية والسياسية وفقاً لمبادئ عصرية حديثة كان الشعب يفتقد خوضه لها، وتجريب وعيه وثقافته السياسية، بعيداً عن محاصصات هيمنة المركز والتبعية المناطقية أو العشائرية أو الدينية.

والنقطة الجوهرية التي صاحبت هذا الحزب أنه لم يتبن في أدبياته أيديولوجيا دينية وإنما جعل من الوطن ومبادئه ومكاسبه الثورية والجمهورية منطلقاً لأهدافه وأفقاً لطموحاته حيث الرغبات المكنونة لمجتمع يطمح بالحرية والاستقرار والعدالة والمساواة وكافة حقوقه التي يكفلها الدستور اليمني، وهذا يعني أن الحزب كان يهدف إلى ملامسة تطلعات الواقع وبناء مستقبل زاهر يكفل خلق جو ديمقراطي تنافسي قائم على تقديم إصلاحات وخدمات تنهض باليمن وتخلصه من ركوده الافتصادي وتخلفه السياسي المنشطر بين رجال الدين ورجال القبيلة.

ولأن حزب الميثاق الوطني تمسك بمبدأ الوسطية والاعتدال والنأي عن طابع التشدد والتطرف الديني الذي كان حينها يجرم العمل الحزبي ويحظر مشاركة المرأة ويعيق الحضور الثقافي والنشاط الأدبي والفني فلم تخفت حدة العدائية والنفور تجاه هذا الحزب الرائد إلا بتأسيس حزب التجمع اليمني للإصلاح إبان تحقيق الوحدة المتكئ على قاعدة دينية أصولية رغب في فرض وصاية دينية استبعدها المؤتمر منذ تأسيسه، وهيأ الأجواء السياسية لجر المجتمع إلى البحث عن مصالحه في إطار العمل الحزبي السلمي الديمقراطي.

لقد حقق حزب المؤتمر نجاحات جمة وله إخفاقات أيضاً، لكنه على كل بقي محافظاً على بوصلة الفعل السياسي وقيادة دفة اليمن إلى بر الأمان، واستمرار عجلة الدولة والحفاظ على مؤسسات الدولة وتقديم مصلحة الوطن على مصلحة الفرد أو الحزب، فلا أحد ينكر ذلك حتى أحزاب المعارضة، كون سقف الحرية كان عالياً، وقد خاضت بقية الأحزاب صراعاً مريراً مع المؤتمر وبقيت إلى جانبه في السلطة مشاركة في المناصب وتتمتع بكافة صلاحياتها دون إقصاء أو قمع، إلا أنها بالغت في فجورها وزادت من عنادها في امتناعها عن خوض الانتخابات النيابية التي كان من المقرر حدوثها في 2009، بدعوى أن المؤتمر يستحوذ على العملية السياسية ويمتلك موازين القوة في كسب الانتخابات، وكان ذلك الخطأ التاريخي الجسيم الذي غير وجهة الواقع السياسي اليمني، حيث لجأت تلك الأحزاب إلى ركوب موجات التغيير في 2011 ليس نزولاً عند رغبات الشباب وإنما سعياً لتحقيق هدفها في الإطاحة بنظام صالح  وحزبه الرائد؛ ولم تأبه أنها بذلك أسقطت الدولة وفتحت الباب على مصراعيه لسقوط النظام والدولة والثوابت الوطنية وإفساح الطريق للأطماع الدفينة المتخفية للسلاليين أعداء الديمقراطية والجمهورية.

الحقيقة: أن المؤتمر الشعبي العام بقيادة مؤسسه الشهيد علي عبدالله صالح  كان حزباً وطنياً جماهيرياً رائداً أنتج المئات من الشخصيات الوطنية السياسية والقيادية التي كان لها ثقلها وحضورها الوطني، وكانت تشكل بوصلة إجماع واحترام الجميع، ولم يكن الحزب خاضعاً لوصاية فرد أو أمين عام أو رئيس فرع، في تقرير مسرب أن منظمة دولية مهتمة بالشأن الديمقراطي في الدول النامية قامت بزيارة إلى اليمن بغرض الاطلاع على التجربة الحزبية اليمنية، وتعمدت زيارة مقرات الأحزاب واللقاء بقياداتها كلاً على حدة، في زيارتها للمؤتمر كان في استقبالها الأمين العام الذي كان ملتزماً بموعد الزيارة، ومستعداً لتفاصيل اللقاء وحضور بعض القيادات وتقديم صورة مشرفة عن أساسيات العمل الحزبي، وقد حرص أعضاء المنظمة على تفقد مقر المؤتمر ومرافقه وقد انبهروا بمستوى الانضباط واللياقة والنظافة والنظام الذي يبدو عليه المقر وأدبيات الأعضاء ونقاشاتهم وعرض تجربة المؤتمر. الشاهد في هذه الحكاية أن أعضاء الوفد توصلوا إلى خلاصة أن المؤتمر الشعبي العام صاحب تجربة سياسية ويلتزم بأبجديات العمل الحزبي وقواعده ويعكس صورة إيجابية من خلال عمله المنظم وكوادره الفاعلة في المجتمع بما يؤكد أن اتساع رقعته لم تكن نابعة من فراغ أو لأنه كان حاكماً وإنما لكونه صاحب خبرة ومنظور سياسي وإداري بعيداً عن الكولسة والعشوائية وعقلية المرشد.

والآن بعد انزلاق اليمن إلى الهاوية وضياع مستقبلها ينبغي على كافة الأحزاب إثبات دورها النضالي والعمل على استعادة الجمهورية والصورة المشرقة للعمل السياسي قبل الاجتياح الحوثي لصنعاء، وتجفيف منابع الكيد السياسي الذي دفع الشعب ثمناً باهظاً بسببه، ويجب على المؤتمر استعادة توازنه وتجميع صفوفه واستئناف نشاطه بما يغير موازين القوى ويرجح كفة الدولة على كفة الملشنة والرجعية، فلا خيار لفلاح اليمن إلا من هذا الطريق. 
رحم الله الزعيم صالح مؤسس الحزب ومؤسس الديمقراطية.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية