يمكن تصور أبعاد المأساة الإنسانية لشاب قروي بسيط، ولد في بيئة نائية، لأسرة قرسطية متعصبة، لم يدخل مدرسة، ولم يقرأ كتابًا خارج مأثورات طائفته، ولا يجيد حرفة معينة، سوى صناعة الموت، وعاش طفولة ومراهقة معذبة هاربًا في الجبال، أو مختبئًا في الأودية والكهوف..


هذا هو "عبدالملك الحوثي"، والقضية ليست شخصية ما دامت تتعلق بشخصية أصبحت عامة هي في المحصلة نتاج طبيعي لهذه الخلفية الشخصية غير الطبيعية، والتي تشبه في كثير من جوانبها التعيسة الخلفية الشخصية لـ"عبد المتجلي" بطل إحدى القصص الخيالية الرمزية لـ"نجيب محفوظ".

في الوضع الطبيعي، كان يجب على الدولة- في الحالين- اعتبار هذا الشخص من ذوي الاحتياجات الخاصة النفسية والعقلية والاجتماعية.. وانتشاله من واقعه المأساوي، وتبنيه وأنسنته، ووضعه في مركز لإعادة التأهيل، ومن ثَمّ دمجه في المجتمع.. ليعيش بقية حياته كإنسان صالح ومواطن سوي.
ما لم.. فالأرجح أن ينشأ شخصية معاقة نفسيًا وعقليًا واجتماعيًا، تعيش وتموت على هامش المجتمع والحياة، كشخصية "عبد المتجلي"، وإن كانت عبثية الأقدار في اليمن، دفعت بهذا الشخص إلى أعلى هرم السلطة، ضمن تجربة سياسية جعلته بجدارة المعادل الواقعي لشخصية "الأخ الأكبر" في رواية "جورج أوريول" "1984م"!
التماثل بين الشخصيتين أوضح من أن تخطئه العين، ورغم تباين الخلفيات الشخصية لكلٍّ منهما، فكلا الرجلين:
• زعيم مقدس منزه عن الأخطاء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
• طاغية محتجب عن الأنظار، يطل على شعبه بين فينة وأخرى من خلال شاشة التلفزيون.
• خطيب يحمل رؤية وفلسفة مثالية بعيدة عن الواقع والعصر والحياة.
• له "بروبجندا" وسردية خاصة حول أعداء وهميين ورواية خيالية عن واقع الصراع في العالم.

ومع احتمالية أن تكون شخصية "الأخ الأكبر": الزعيم الفذ القائد الملهم الأكبر الأوحد.. شخصية وهمية صنعها "الحزب" ليسيطر من خلالها على الجماهير، الوجود المادي للزعيم الحوثي لا يغيّر من كون هذا الزعيم بالمثل صناعة سياسية إعلامية، فهو لوحده- بخلفيته الشخصية الآنفة- لا يمكن أن يفلح في أي شيء، ولا يدري حتى ماذا يقول. عندما انهارت الدولة إثر الاجتياح الحوثي وبسببه، خرج بخطاب واثق يقول فيه:
"إن ثورة 21 سبتمبر أنقذت اليمن من الانهيار الاقتصادي"!    
هذا الكلام مثير للضحك بقدر ما هو مثير للرثاء، والمهم أننا هنا لسنا أمام شخص؛ بل "جماعة" تصنع الرموز والشخوص، وتحكم باسمها عبر نظام وأيديولوجيا وإجراءات وممارسات.. مماثلة للغاية لملامح وجوانب النظام الشمولي الديسوبي الذي صوره "جورج أوريول"، ما يجعل التماثل بين التجربتين يتجاوز الفرد إلى المستوى الجمعي.
وعلى هذا المستوى، ربما لا يوجد في العالم الحديث نظام سياسي شمولي أقرب لملامح وجوانب النظام المروع الذي صوره "جورج أوريول"، في رائعته الروائية هذه، لنظام الحكومة الخيالية في دولة "أوشينيا العظمى"؛ من النظام الحوثي في اليمن، ضمن فضاء واحد محكوم بـ"الدوستوبيا": "المدينة الفاسدة، وعالم الواقع المرير".
ومع أن "أوريول" كتب روايته هذه عام "1948" على وحي ممارسات النظام الشيوعي السابق في السوفييت، ومع أن النظام الشيوعي الراهن في "كوريا الشمالية"، قريب بدوره حسب تشبيهات بعضهم.. يظل النظام الحوثي أكثر مماثلة، وكون النظام الحوثي نظامًا كهنوتيًا قرسطيًا يجعل الكوميديا السوداء، على محك المقارنة، أكثر سوداوية وسخرية!

كالنظام الخيالي "الأرويلي" لدولة "أوشينيا" العظمى، الجماعة الحوثية نظام عنصري طبقي قسم الشعب إلى فئات وطبقات أهمها:
-    الطبقة العليا: تمثل حوالي 2% من الشعب، هذه الفئة وإن كانت "هاشمية"؛ إلا أنها لا تمثل حتى جميع الهاشميين، وتكتسب امتيازاتها من كونها متحدرة من سلالة مقدسة.
-    الطبقة الوسطى: تمثل: 13%. بما قد يقارب نسبة المتحوثين، والمغلوبين على أمرهم الذين يشغلون الوظائف الفنية تحت إشراف الطبقة الأولى.
-    الطبقة الثالثة: نسبتها 85%، وهي الأغلبية التعيسة المحكومة بالحديد والنار، وتعيش في قعر المجتمع.

على الصعيد العملي، وكالنظام الخيالي "الأرويلي" تمامًا أيضًا، يحكم النظام "الحوثي" الشعب عبر حكومة تقوم بعكس أدوارها المفترضة؛ مثلًا: "وزارة النفط" الحوثية تعمل على احتكار مشتقات النفط لصالح بعض قيادات الجماعة، وافتعال الأزمات النفطية، وبيع الوقود في السوق السوداء.. على غرار "وزارة الوفرة" المسؤولة في "أوشينيا" عن احتكار الأغذية والمنتجات.. والتجويع الممنهج للشعب!
وعلى غرار ذلك: "وزارة التعليم" تنشر الجهل، و"وزارة الصحة" تساعد الأوبئة في الانتشار، بمنع وصول الأدوية أو منع توزيعها، كمنع تطعيم الأطفال من الأمراض القاتلة. قالوا عن حقن التطعيم: "وسخ وسموم ومؤامرة يهودية، وفكرة شيطانية تهدف إلى قتل ملايين البشر" من اليمنيين، كما اعتبروها جزءًا من مؤامرة دولية تقودها "دول العدوان"، وتضر بخصوبة ومستقبل الشعب!
"وزارة الحب" في "أوشينيا" تبث الكراهية، وتمنع قيام علاقات بين الجنسين، على أساس الحب، وترى أن الزواج يجب أن يقوم على الإيمان الثوري للطرفين، وأن الزواج القائم على الحب، ظاهرة استعمارية!
وبالمثل: "الحب" لدى النظام الحوثي مشكلة أكثر حساسية وخطورة، لدرجة منع أي نشاط قد يؤدي إلى علاقة حب، كالاختلاط؛ بل ومنع أي ضرورة تؤدي إلى الاختلاط، حتى الدراسة في القاعات الجامعية!
نحن هنا أمام نظام مهووس بالجنس، ومسكون بفوبيا الجنس، وبدلًا من مراقبة بطون الناس لإشباعهم، منهمك بمراقبة أعضائهم الجنسية والتناسلية. أشهر فرماناته الفانتازية، خلال سنواته العاجفة، تتعلق بفرض معايير صارمة لأنشطة المرأة، والحجاب، والأزياء النسائية.
على الصعيد الإعلامي الثقافي الفكري.. يمتلك الحوثي، على غرار "وزارة الحقيقة" في "أوشينيا"، عدة وزارات وهيئات للهدف نفسه وهو: التحكم بصرامة بنوعية المعلومات السياسية والتعليمية والفكرية والتاريخية والأيديولوجية للشعب.
هو وحده من يضع "الحقائق" المطلقة للشعب، "حقائق" متهافتة متناقضة لا تنطلي حتى على السذج من قبيل:
- أنه يدافع عن الكرامة اليمنية التي ينتهكها أزلامه منذ البدء وعلى الدوام!
- أمريكا هي التي أوقفت مرتبات الموظفين في اليمن!
- المطالبة بالراتب جزء من مؤامرة خطيرة ضد الوطن، والمطالبون بها عملاء لدول العدوان!
يرسخ النظام الحوثي هذه "الخزعبلات" من خلال التعليم والإعلام والدورات الثقافية، وحشد الجماهير في مناسبات عامة مصطنعة تتزايد باضطراد، وهناك توجه حوثي لإلزام الشعب اليمني بالاحتشاد يومًا في الأسبوع لمشاهدة وسماع خطبة "السيد عبدالملك الحوثي".
هكذا تمامًا كان "الحزب" يحشد شعب "أوشينيا" كل أسبوع للاستماع إلى الخطابات التاريخية للأخ الأكبر، وفي الحالين، يتم ضمان ترسخ الحقائق المطلقة العجيبة من خلال الأجهزة القمعية المعنية بملاحقة الفردية والتفكير الحر باعتبارها جرائم فكرية. 
وكنظام "أوشينيا" الذي يمتلك أجهزة رقابة قمعية عميقة ومرعبة، تراقب الحياة العامة والخاصة للشعب، حتى في الصالات وغرف النوم.. يمتلك الحوثي عدة أجهزة للاستخبارات والرقابة الدائمة على الشعب.
يصل الأمر كثيرًا حد قيام الجماعة بتحريف وتغيير الحقائق والمعلومات التاريخية المعروفة والموثقة جيدًا من قبل أعوام وعقود، بما يتفق مع عقيدة وتوجه الجماعة، عن وقائع وأشخاص لهم علاقة إيجابية أو سلبية بأيديولوجيتها.

يعرف الشعب والعالم أن اليمن شهدت خلال النظام الإمامي المتوكلي أسوأ مجاعات في التاريخ، لا زالت الشواهد والوثائق عنها حية.. بينما يشيع الحوثي أن اليمن كانت في ذلك العهد تصدّر الحبوب للسعودية وألمانيا والسوفييت!
بات مصطلح "أوريولي" بمثابة الشفرة الرمزية المعبرة عن الخداع الحكومي والمراقبة السرية، وتلاعب الدولة بالتاريخ الموثق، والتلاعب بالجماهير، وصناعة الأخبار الزائفة، والمظاهر الخادعة، والانتصارات الزائفة.
حتى الرياضيات في "أوشينيا" مختلفة قليلًا، مثلًا:
2 + 2 = 5
وأحيانًا = 3
وأحيانًا = 5 أو 3 حسب بعض العوامل.
وأحيانًا = 5 و3 في نفس الوقت.
المهم أن المجموع لا = 4؛ لأن هذا المجموع الأخير إشاعة مغرضة يبثها الخونة والعملاء التابعون للإمبرالية العالمية، وتهدد الوطن والأمن القومي والتجربة التحررية الرائدة لـ"الأخ الأكبر"، ما يفتح المقارنة حتى على مستوى اللغة: فعلى غرار لغة "نيوسبيك" "لغة السيطرة" للنظام في "أوشينيا"، للحوثي لغة خاصة بمفاهيم ومفردات ومصطلحات، واستعارات وأساليب تعبير، للحديث عن قيادات ومقاتلي وأتباع الجماعة، أو لوصف خصومها، وخداع الجماهير وتمرير المشاريع المشبوهة.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية