(رأي) الوجه الأوضح للتعليم في مناطق سيطرة الحوثيين
قبل سنوات، حوّل الحوثيون أسوار المدارس الحكومية إلى دكاكين تجارية، بمبرر دفع رواتب المعلمين، لكنهم لم يدفعوا شيئًا.. واليوم، يبررون رفع رسوم تسجيل الطلاب والطالبات في المدارس الحكومية بذات المبرر المبتذل، مع أنهم يستطيعون تغطية نفقات العملية التعليمية بأكملها مع رواتب المعلمين وكتب الطلاب وبقية احتياجات التربية والتعليم بخمسة بالمائة فقط من الضرائب التي يصادرونها، أو بمستحقات جبهة حربية واحدة، مع افتراض أن جبهات الحرب واقفة، ولكن الحكاية برمتها تدور حول عملية متكاملة من الإجراءات الهادفة لتنفير الناس من المدارس الحكومية صوب المدارس الخاصة، المدارس التي تقبض مئات الآلاف عن الطالب الواحد، لتشتري الكتب المدرسية من الوزارة الحكومية، وتدفع عن كل طالب مئات الآلاف أيضًا، لتصير الوزارة بغايتها المهمة إيرادية من الدرجة الأولى، وهي الغاية الرابحة جدًا جدًا.
ومن الناحية المقابلة، المبالغة في مستحقات التعليم الحكومي بلا تعليم حقيقي عامل مساعد للتنفير أيضًا، وبهذا يكون الناس أمام خيارين: مدارس خاصة أو ترك التعليم من أساسه، وهو ما يحدث بالفعل، فعشرات الآلاف من الطلاب يتركون التعليم ويلتحقون بالحرب أو بالأعمال أو بالهجرة، كضرورة وجودية أرغمتهم عليها المعطيات السابقة. أما الذوات وأبناؤهم فالتعليم الأهلي خيارهم المقدور عليه حتى ولو دفعوا من أموالهم الملايين؛ لأنهم في الحقيقة يدركون أهمية التعليم ونتائجه وضرورياته، بينما الفقراء وأبناؤهم مرغمون على الحرب والعمل أو الموت والمغادرة.
إن العملية التعليمية برمتها تحصيل أموال، وتخلٍّ عن المسؤولية، وتجييش باتجاه التجنيد، وانتهازية فئوية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تجارة ومتجارة وأرباح ومصالح سلطوية ومادية، على حساب الشعب ومستقبله وأبنائه، فالأجيال الذين لا يتعلمون يرضخون للواقع ويصيرون مجرد كائنات مهيأة للحرب والقتال أو للعمل والإرغام، فالفقر مع الوعي والتعليم لا يبقى ولا يدوم، لكنه مع الجهل والتجهيل يبقى ويطول، هذه العملية التفخيخية ستتكفل بكل ملامحنا القادمة، ملامح الجهل والمجهول والظلام المتراكم، عن شباب تعرضوا للإقصاء والاستغلال والتجييش، في مقابل شباب آخرين استفادوا من المتغيرات وحققوا أمجادهم التعليمية والتخصصية.
تجارة الكتب وحرمان المدارس
تقوم سلطة الحوثي، منذ سنواتها في الانقلاب، بطباعة الكتب المدرسية في مطابع ما يفترض أنها الدولة والحكومة، وتوصلها في مواعيدها الدقيقة إلى جميع المدارس الأهلية، ليقدموها في أبهى حلة، وأجمل طباعة، للطلاب الذين يدفعون مئات الآلاف مقابل التعليم الخاص، يقدموها لهم وعلى ظهورها مختوم أخضر بعبارة تقول في مطلعها "خاص بالتعليم الأهلي"، هكذا فقط، خاص بأصحاب المال ومن يدفع أكثر، كتب جديدة وأنيقة وملونة، كتب واضحة وبهية، وهي ذاتها كتبنا التي كانت بأيدينا في زمن ما يصفونه بالفساد القديم، الفساد الذي أسقطته ما يسمونها زورًا "الثورة"، وجعلت في عهدها كل المدارس الحكومية بلا كتب ولا معلمين ولا أختام خضراء بهية، مدارسنا الحكومية صارت خاوية على عروشها إلا من رائحة الفقر فيها والفراغ، صارت مدارس للأيتام في شكلها ومظاهرها، وكتبها ممزقة ونصفها بلا نصف آخر، كتب رثة هالكة ومهترئة، تمامًا كشكل دولتنا الساقطة بعد عهد "الثورة".
أيها الشعب:
لم يعُد لكم دولة، ولا مدارس، ولا كتب ملونة، لم يعُد لكم الحق في التعليم المجاني والدراسة الحكومية والكتب الجديدة، لقد صارت كلها تجارة صفراء لا تخجل من ممارساتها المفضوحة!
تجريف ممنهج
في فيديوهات كثيرة وحديثة، يظهر أطفال في مدارس متعددة بمناطق سيطرة الحوثيين وهم يصرخون بشعارات سياسية وعدائية في صعدة وصنعاء وعمران وحجة، شعارات دينية متطرفة، وفي بعض المدارس بصنعاء أقحموا السياسة والحرب والمذاهب في المناهج والدروس والواجبات والاختبارات، مثلًا في أحد الاختبارات التي بين يدي وهو تابع لمعهد الشوكاني بصنعاء، توجد أسئلة ليست من صميم المناهج والدروس، أسئلة مرتبطة بالواقع السياسي والحرب الراهنة.. أيضًا أقدمت سلطة الحوثيين على تعيين قيادي حوثي في منصب وزير التعليم في خطوة منهجية لما يكنه التعليم من أهمية قصوى في تغيير الموازين، كما اتهم معارضون وسياسيون كُثر سلطة الحوثيين بتغيير المناهج التربوية واستبدالها بأفكار ومعتقدات ودورات ثقافية تتبع الجماعة عقائديًا، وهذا يرونه في سياق التطييف العلني والتحريف الديموغرافي للمجتمع والهوية اليمنية، صانعين بذلك أجيالًا مفخخة ومجرفة تكره كل ما ينتمي للتوجهات الأخرى.
إن مسؤولية تطييف التعليم في مناطق سيطرة الحوثي، مع تطييف الحياة اليمنية بشكل كامل، ومسؤولية انسحاب الناس إلى طوائفهم ومناطقهم وإثنياتهم أو حقدهم وطائفيتهم تجاه الآخرين، ومسؤولية تحويل القضية اليمنية إلى قضية نزاع أهلي وطائفي بأبعاد إقليمية ودولية، جميعها لن تزول إلّا بتوجهات جارفة لسحق المنظومة الطائفية المحتجرة السالبة للسلطة والموارد، السلطة التي جعلت العملية التعليمية برمتها مبنية على أساس الطائفية والعنصرية والمناطقية.
هذا التضخم في المحصلة لا ينتج حلولًا حقيقية قريبة وقابلة للحياة، بقدر ما هو تجذير لمشكلة الطائفية والإرهاب في واقعنا اليمني والعربي، لا حلول جديدة لمشكلة الطائفية والإرهاب دون البدء بتأسيس منظومة التعليم العملاقة التي لا يملك سلطانها أحد، منظومة منبعها الشعب والمستقبل، ومنهجها علمي بحت غير مرتبط، لا من قريب ولا من بعيد، بالمذاهب والمناطق والأشكال الطائفية الأخرى، تعليم منحدر من منطلقات الديمقراطية والتعايش وجميع القيم السياسية والإنسانية والحضارية.
أخيرًا:
صباح كل يوم، مع صوت طابور المدرسة، مع موعد احتراق قلوب الطلاب والطالبات العاجزين عن الدراسة، موعد القهر والحسرة في قلوب عشرات الآلاف من الآباء الذين لم يتمكنوا من تسجيل أبنائهم وبناتهم في المدارس الحكومية أو الأهلية؛ إنني أشعر بهم وبغصة الزمان في قلوبهم، غصة الرجال المنكسرين أمام عيالهم وزوجاتهم، أشعر بهم وأعرف عنهم الكثير من الحكايات الحقيقية، عن أسر وأهالي أوقفوا أبناءهم وبناتهم من الدراسة لأنهم لم يعودوا يقدرون على دفع تكاليفها ورسومها واحتياجاتها.. وعن الطلاب الذين غادروا الدراسة وذهبوا يبحثون عن أرزاقهم في الشوارع والأسواق الجانبية.. وعن الطالبات اللواتي استسلمن للبقاء في البيوت على أمل أن يأتي من يتزوجهن وينقذهن ويأخذ بمستقبلهن بعدما عجز أهاليهن فعلًا عن تحمل تكاليف الدراسة، لهذا وأكثر، أثق بأن الوطن سيعود يومًا ما.