ما الذي تبقى من جامعة صنعاء!
لا أحد يتصور حجم الانحطاط والتردي الثقافي والمعرفي الذي وصلت إليه جامعة صنعاء إبان سطوة السلاليين عليها، هادمين تاريخها ومارغين أنفها في الوحل كما لو كانت خصماً مستهدفاً في قائمة التقويض كنسف كل اللوائح الأكاديمية والقوانين العلمية التي كانت علامة فارقة لهذه الجامعة العريقة، وباتت مرتعاً للتلاعب والملشنة والتعيينات المتجاوزة لكل الصلاحيات كأنها حوزة فارسية بامتياز.
وحين ينتصب في مخيلتنا سؤال مؤرق ومؤلم كهذا، فبماذا سنجيب عنه؟ هل سنفصح أنه يقف على رأس الهرم فيها سلالي معتق لا تنطبق عليه أي الشروط المطلوبة لمنصب "رئيس الجامعة"، وإذا كانت هذه أول مفاجأة فخلفها يقف رتل طويل من المآسي والمعاول التي خصصت لهدم بنية التعليم العالي في الجامعة، وقلب أنظمتها وتفتيت كيانها الداخلي بطريقة رسمية معتمدة، تعيينات لا حصر لها لحوثيين غير مؤهلين في هيئة التدريس، إضافة مقرارات دراسية طائفية على الطلبة، تعبئة حوثية إجبارية ودورات ثقافية مكثفة أرغم عليها كادر التدريس وتلاميذتهم، ترديد الصرخة، إحياء المراسم التابعة للجماعة، وترصيع جدران الجامعة بصور القتلى ورموز السلالة وقاداتها، وتشويه قاعات المحاضرات بالشعارات والرسومات، وهلم جراً من بكائيات ونواح وهتافات وتطييف وتفخيخ للعقول وتلغيم لجيل كان يتوهم أنه ةنتسب لجامعة بينما وجد نفسه في "غدير قم" يتجرع تاريخ آل البيت ويقدس صرعاهم ويبتهل بذكراهم وينحب على مآثرهم.
لم ينج الأكاديميون الأساسيون -الذين أفنوا عقوداً في إعلاء سمعة الجامعة وترسيخ مكانتها محلياً وعربياً- من عملية الإخضاع والهيمنة الحوثية الكاسرة لهيبتهم والمهمشة لثقلهم العلمي بجعلهم توابع لمتحكمين جدد عينوا في مختلف الكليات وأصبحوا آمرين على البرفيسورات، ولهم الصلاحية المطلقة في إدارة الجامعة بأسلوبهم الخاص، كونهم يستمدون قوتهم من سيد الكهف وكهنة السلالة؛ بينما توارت النخب الحقيقية وانزاحت إلى الظل ينخرها القهر والخيبة واليأس مما نالهم من اغتيال علمي واجتماعي ومادي، ولذا سنجد أنه في العامين الماضيين لقى أكثر من أربعين أكاديمياً حتفهم بموت مفاجئ ونهاية قاسية ورحيل مبكر غامض الأسباب والأقدار، وما كان ذلك بمنأى عن معاناتهم وواقعهم المشين الذي وجدوا أنفسهم جثثاً أبت البقاء وآثرت الرحيل على أن تتمسك بالحياة المهينة والإذلال المتكوم حولهم المستنفد لطاقاتهم في الصبر والتحمل.
ثمة استحداثات مهولة ابتدعتها الجماعة الحوثية في أروقة الجامعة، وجلها تصب في إطار مشروعها الطائفي، كقرار إغلاق بعض الأقسام في كلية اللغات، وشروعها في تدشين قسم اللغة الفارسية وتحفيز الطلبة للالتحاق بالقسم وتلقينهم أصول التشيع وخرافات الولاية، وإغرائهم بوظائف مباشرة عقب التخرج، وهي بهذه الخطوة تثبت تبعيتها لإيران علانية، ونبذ أي طريق يشتت بلوغ غايات مشروع الاصطفاء الإلهي المزعوم، وليس هذا فحسب ما يثير الاستغراب والنفور؛ فقد عملت عبر أذرعها في الجامعة للدفع ببعض طلبة الدراسات العليا لتناول ملازم الصريع "حسين الحوثي" في أطروحات الماجستير والدكتوراه، إضافة لدراسة خطابات عبدالملك، وسِيَر رموز السلالة المؤسسين أمثال "الحسين الرسي، وعبدالله بن حمزة، وبدر الدين الحوثي" كل هذه الموبقات غدت مجالاً نشطاً في البحث العلمي الصادر عن جامعة صنعاء، ولم تكتف بهذا القدر من الانحطاط؛ ففي الأيام الماضية رأينا مناقشة علمية لطالب يرتدي الزي الشعبي هو والمناقشين، وعلى كتفه بندقيته الكلاشنكوف، كأقصى ما يمكن تخيله من استهتار واستخفاف باللوائح الأكاديمية والإهانة المريعة تجاه قدسية الحرم الجامعي.
ولمأساة هذه الجامعة وجه آخر يكمن في الكليات العلمية "الطب / الهندسة/ الصيدلة"، حيث غدت شركة خاصة تدير ربحاً وفيراً وعائدات قياسية، كون الشروط الحازمة التي كانت تواجه الطالب الطامح بالانتساب لهذه الكليات خفتت طالما ونظام "الموازي/ النفقة الخاصة" متاح وبالعملة الصعبة فقد انخفضت نسبة المعدلات إلى أقل من المتوقع، أما النظام العام في هذه الكليات غدا حكراً على أبناء السلالة والمشرفين، وكذلك أبناء القتلى الحوثيين فقط، ولم تعد نتائج اختبارات القبول هنا مقنعة، مجرد روتين صوري رغم أنها محسومة مسبقاً، وبما أن عميد كلية الطب السلالي "القاسم محمد عباس شرف الدين" أثبت بجدارة إدارة عمله وفقاً لتصور المسيرة فقد نال ثقة سيد الكهف وكلف برئاسة الجامعة لاستكمال هذا النهج باحترافية طائفية لا تقبل الشك.
وبما أن المسيرة الأكاديمية غرقت في مستنقع الملشنة والتطييف والانتكاس عبر تسلسل هرمي يبدأ من قيادة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي كبوابة للتهاوي والسقوط، فليس غريباً ما نراه في بقية الدوائر التابعة للوزارة كجامعة صنعاء التي لم تعد الكليات فيها نشطة إلا تلك التي يتخرج منها الطالب لممارسة تخصصه في القطاع الخاص كالطب والهندسة، أما الكليات التي تحتاج إلى دولة نظام وقانون ومؤسسات حكومية فقد دخلت مرحلة الموت الإكلينكي، كالآداب -مثلاً- فقبل أيام شاهدت إعلاناً يتعلق بمسألة التسجيل في الكلية ولا يشترط إلا معدل 55% فقط وبلا اختبار قبول في معظم أقسام الكلية، وفي الآن نفسه ستجد أن من لم يدخل المدرسة بتاتاً سيحصل على تقدير 70% في الثانوية فما بالك بشرط القبول في هذه الكلية، ومع هذا التسهيل المطلق يحظى كل قسم فيها بطالبين إلى ثلاثة باستثناء قسم اللغة الانجليزية.
التفاصيل كثيرة والفضائح متلتلة والواقع محزن للغاية في صرح علمي كان قبلة للنخب الأكاديمية المرموقة من الوطن العربي كله، وفي هذا الزمن السخيف أصبحت موطناً للجهلة والسذج وبقايا السلالة والخرافة، أسفي وحسراتي على تاريخ عريض يذوب كفص ملح.