القصيدةُ الجيدةُ نتاجُ رؤيةٍ جيدةٍ، تشكلت من خِصب الثقافة ورَواءِ الفكر وثراءِ المعجم اللغوي. إنها خلاصةُ أفكار وزبدة معارف وثمرة مطالعات. يستولدُها المبدع من دماغه بمعاناةٍ لا تخلو من المتعة، أو بمتعة لا تخلو من المعاناة. 
 
تتدوّحُ المعاني بالألفاظِ الرشيقة التي تعكسُ رهافة حسِّ الشاعر، مُتسنبلة بالضوء، متهامسة بالجرس الموسيقي الذي يختاره الشاعر، متوائمًا مع الفكرة الأم، في صورةٍ متكاملةٍ من المعاني والأخيلة والموسيقى. 
 
للشاعر المتألق زين العابدين الضبيبي فرادةٌ إبداعية متميزة، تجمع بين صلابة المعنى ورشاقة اللفظ، لا عجب.. فهو ابنُ ريمة الشامخة بجبالها العتيدة، المتأنقة باخضرارها السُّندسي التي خلعت عليه هاتين الصفتين معًا، وهل المبدعُ إلا ابنُ بيئته وسليل تربته وسُلافة موطنه؛ لذا فهو يريشُ المعاني سهامًا مجنحة بالضوء، وفي وجدانه وجعٌ ممتدٌ بعمر الدهور. وغالبًا لا يبدع المبدع إلا متألمًا، معتركًا في "مونولوج" الذات الداخلية، فيتجلى إبداعُه- من ثَمّ- في أصدقِ تعبيرٍ عن هذا الانفعال الصّامت، وهو على العكسِ من إبداعاتِ الفارسِ المتفننِ في فروسيته الذي يبدع في العَيان، وعلى مرأى ومسمع من القوم، فيما الشاعرُ يبدع بصمت. وكل؟ٌ منهما- الشاعر والفارس- بطل ميدانه. 
 
إنه ابن سبتمبر المغدور، ومن منا لا يرى في سبتمبر المعظّم مصحفًا مجللًا وإنجيلًا مقدسًا؛ ذلك لأن جلاله وقداسته من قداسة الإنسان نفسه، باعتبار الإنسانِ قيمة تنتهي عندها كل القيم، فاليمنيُّ وسبتمبر صنوانٌ لا يفترقان؛ وكلٌ منهما يستمدُّ بقاءه من صنوه. وبفقدان أحدهما يتلاشى الآخر. 
 
فَرَادةُ الشاعر زين العابدين استثنائية بين أقرانه، وهو في قصائده السّبتمبريّة أكثر فرادة، وأبهى تألقًا؛ لأنه يبدع من سبتمبر وإليه، في عمليّة تكاملية بين جلال الموضوع وذات المبدع، الأمر يشبه ضوءَ القمر الذي هو في أساسِه انعكاسٌ لضوءِ الشمس، كسَحِيح السحاب على صفحة البحر نفسه، وقد استمدت من البحر أمزانها. إنها عظمةُ سبتمبر متكاملة مع إبداع الشاعر. ومع سبتمبر كل الناسِ عُظماء. يستلهم منه الفنان مادته الفنية، كما يستلهمُ الخطيبُ بلاغته الخطابيّة. هل رأيتم لماذا نحبُّ سبتمبر؟! وهل عرفتم الآن لماذا يتألقُ الزين مع سبتمبر أكثر؟! 
 
في قصيدة "هذي البلادُ نبيُّها سبتمبر" وهي من غرر قصائده وإبداعاته الشعرية، والتي جاءت من البحر الكامل، ذي الجرس الموسيقي المتماوجج؛ نقرأ ذاتَ الشّاعر الإبداعيّة إلى جانب قراءتنا ذات النص المكتوب، وفي ذاته الإبداعية تتماهى فكرة سبتمبر لا كموقف، أو حدث مضى وانقضى من جملة الأحداث، أو حتى من جملة الثورات التي قامت؛ بل لأنّ لسبتمبر خصوصيّة يمنية، تختلف عن كل الخصوصيّات الأخرى، باعتبار "سبتمبر" حالة إنسانيّة بالمقام الأول. في كل الثورات العصرية، ابتداءً من الباستيل وحتى آخر ثورة، ثارت الشعوبُ باحثة عن الخدماتِ وعن تحسين أحوالهم ومعيشتهم، وهذا حقٌ مشروع لهم؛ أمّا في اليمنِ فقد ثار الشعبُ ابتداءً، باحثًا عن حقه في الوجودِ الإنساني، باحثًا عن كينونته كأناسٍ وبشر؛ لأن الكهنوت الإمامي البغيض غير كل كهانات الدنيا. من هنا تجلت سبتمبر فكرة وروحًا في قول الشاعر: 
هــــذي الــبــلاد نـبـيُّـها سـبـتـمبرُ
فـهـو الــذي تـاقـت إلـيه الأعـصرُ
سـبـتـمـبرٌ حــلــمٌ لــكـل حـقـيـقةٍ
مــن ذا يـفـسرها وكـيـف تُـفسرُ؟
سـبـتـمـبرٌ لــغــزٌ ســيــدرك حـلَّهُ
مــن لغّمـوا قـلبَ الـبلادِ وفـجروا
سـبـتمبرٌ جـيـشٌ بــدون جـحافلٍ
بـيـديه يُـحتطب الـظلام ويُـكسَرُ
سـبـتـمبرٌ فــيـهِ اكـتـمـالُ روايـــةٍ
مـنه ابـتدت، وكـما يـُريدُ سـتسفرُ.
 
وبما أنّ للشعوب عقائدَها الدينيّة، فإنّ لها أيضًا عقائدَها الوطنية، وسبتمبر عقيدة في الوجدان وضمير في ذات الإنسان اليمني؛ لأن اليمني يدرك- تمام الإدراك- أنه قبل سبتمبر عدم، وبعده ندم، ولا حياة ليمني قط بلا سبتمبر، إلا أن تكون حياة الحيوان؛ بل وما دون ذلك. من هنا يخاطب الشاعر الذات السبتمبرية مباشرة: 
لـكـنـني ســأقـــولُ فـــي سـبـتـمــبرٍ
يـا مـصطفى أنت الكتــابُ الأخـطر
سـتـضج إعـصـاراً وتـرعد غـضبةً
لـيلوحَ فـي الآفــاق صـبحٌ أخـضــرُ
وتُـعـيـد لـلـوطـــن الـركـام حـيــاته
وبغـمــزةٍ مـنـك الـسمــاء سـتـمـطرُ
سـبـتمبر الـيمــن الـسعـيد كـما أرى
وغـداً يـرى مـثلي الجميع ويبــصرُ
وغـــداً غـــداً، وعــــدٌ لـكـل مـقـامرٍ
بـحـيـــاةِ شـعـبٍ كـسـرُه لا يُـجــبرُ.
 
في الواقع إنّ خطابَ الشاعر زين العابدين لسبتمبر هو خطابُ كل يمني، وفي هذا النص الاستثنائي يجد اليمني ذاته وكينونته، وقد استفزتها سُلوكيات الكهنة الجُدد، ولا يصح نعتهم أساسًا بالجدّة إلا إذا صح أن نقول: "الغبار الجديد"، فهم غبار التاريخ وضباع الغابات العرجاء التي لا تعرفُ إلا الافتراس والنهش. لقد انبعثت الذات الوطنية الغافية من مرقدها وتفانى الجميع في البحث عن ذاتهم التائهة منذ زمن طويل. نعم تبلّجت الروح اليمانية الأصيلة قصيدةً في وجدان الشاعر، ونصًّا في قلم الكاتب، وريشة في يد الفنان، وبندقية في يد الجندي، وكلمة في فم الخطيب، وموقفًا في ضميرِ السياسي، وهيهات أن تستطيعَ عصابة البغي مواجهة هذا الكل مجتمعًا، وإن "تطوست" اليوم متسلحة بجهلها ورعونتها الحمقاء. ومرة أخرى: 
سبتمبرٌ لغــــزٌ سـيدرك حــلّه 
من لغّموا قلب البلاد وفجروا
سبتمبرٌ جيشٌ بـدون جحـافـل
بيديه يُحتطبُ الظـلام ويُكسر.

أخبار من القسم

اشترك الآن بالنشرة الإخبارية