القيسي يكتب ل" 2 ديسمبر" جدلية اليمن المذبوح من صنعاء إلى قرطبة( مقاربة تاريخية لخطر أدعياء السلالة)
بقي الإسلام حبيس مكة حتى قادته القدرة للخروج من مأزق قريش، فتوسّع بيمانية يثرب، وتفسّحت آفاق دعوة النبي محمد، القرشي، بالأوس والخزرج وبالأشاعرة وقضاعة وكلب.
ثم ظل حبيس المدينة وشمال الجزيرة، فتوسع الإسلام بيمانية همدان وزبيد وبكل قُبُل سبأ وحميَر وطار إلى العراق والشام.
إلى أن أراد الله له التوسع فعززه بلخم وجذام وهمدان ويحصب، وشكلت اليمانية خطة المدن المعمورة من الكوفة إلى مصر وإلى المغرب الأقصى والمشرق الأقصى.
أصبح للإسلام دولة، عليها أن تعزز وجودها، في العالم المعمور، وكانت قريش مع كل قبائل العرب قليلة العدد والعدة إلى أن تكاثرت باليمنيين، حيث وقد قيل عن النبي أن اليمن هي المدد، وتوسعت يمانية الجبال إلى الأندلس، وأصبحت خراسان.
يمان في المغرب ويمان في المشرق، في آسيا يمان ويمان في أوروبا، ابن المهلب في العراق وابن الأشعث ما وراء النهر، والبقية وكثرتهم في طليطلة يمتدون من جبال الأوراس إلى جبال البرانس يمانية خالصة.
القارئ الحذق يدرك لماذا بعد توطد دولة الأمويين أرسلوا اليمانية إلى البعيد، رفض الوليد بن عبدالملك توغل جيش الخلافة ببلاد غريبة ومنقطعة مثل الأندلس، حيث يمكن أن يهلك المسلمون، فلما كان غالبيتهم من يمن وليسوا من مضر عصبة الخليفة سمح لهم بالفتح، وكانوا وقود الفتح وكانوا سنوات التضحية لاستقرار وضع الأندلس باسم الخلافة فإن نجحوا نجحت الخلافة وللخلافة، وإن فشلوا وهلكوا هلكت عصبة اليمن وربحت بمهلكهم عصبية الخليفة.
أرسلتهم دار الخلافة إلى باطن الفتن، في النهر وخراسان، جعلوهم طُعماً لحروب بلا نهاية مع الخوارج كما المهلب وولده يزيد، وقتلوا بسيف الحجاج شجاع كندة، بسيف الوليد بن يزيد قتلوا خالد القسري، بسيف الصميل بن حاتم القيسي من مضر كانت المذبحة الأولى لليمنيين في الأندلس ثم بسيف صقر قريش كانت نكبتهم بالأندلس.
فرغت اليمن من العصبية، غادرها الرجال وذوو الشجاعة وعجزت الهاشمية السياسية بالحلول محل حكم أي بلد، وكانت اليمن التي آوتهم وبدأت المذابح بحق اليمنيين باسم السلالة وبدأ الشطر الثاني للخلاص من اليمانية في عقر دارهم، فالأموي أهلك اليمانية عصبة الفتح والعباسي بعصبة العجم أهلك اليمانية التي وقفت ضد العجم وتدافع عن العرب وكينونة العرب في خراسان، والعلوي أهلك اليمانية بذات أرض اليمن، والأموي الثاني في المغرب الأقصى بقرطبة أهلك اليمانية، فلكي تقوم دولة الأموي الأولى بالشام والعراق كانت اليمانية هي الضحية ولكي تقوم دولة الأموي الثاني في إسبانيا كانت اليمانية هي الضحية، سيوف اليمانية تقيم الخلفاء كي يقتلوا بسيوف الخلافة.
قُدر لهم الموت بسيوف من نصروهم
أقمنا الدول ليقعدونا، نصرنا الأمراء ليذبحونا، استقبلنا ا"لهاشميين" ليطردونا، منذ فجر التاريخ، مذ منعت الإمارة عن الأوس والخزرج ومذ منعت الغنيمة عن معد كرب الزبيدي، ومذ قاتل علي بنا ولم نربح شيئاً، ومذ قال معاوية للشيباني أسمعني صياحهم من حضرموت إلى دمشق، ومنذ ومنذ ومنذ ومنذ ومنذ وإلى هذه اللحظة.
هل كنا أُباة أم شقاة؟ يعجز العقل أن يتفتق، ليصل إلى الحقيقة، أغبياء أم شعور بالنقص؟ ذُبِح ابن الأشعث حفيد الملوك بسيف الحجاج وكأنه لم يكن الفاتح بأرواح يمنيته بلدان الشرق، وقام السكير الوليد بن يزيد بذبح خالد القسري ومن مثل خالد في العرب والعجم ولم ترثه صفحة من التاريخ.
والجذامي وابن الخطار واليحصبي.!
مناجاة الخطار اليماني الأندلسي لقومه قبل المعركة للقيسية تسفد العصور، قال لهم: نحن فتحنا هذه الجزيرة، قوم فتح، وعمرنا هذه البلاد، قوم عمران، وهؤلاء من مضر آويناهم وفيهم جاهلية ويريدون طردنا من البلاد التي فتحها أجدادنا، قالها كمن يبكي وفعلاً ذبحته القيسية وذبحت كامل قومه.
عتاب شيخ اليمن اليحصبي لصقر قريش ببلاط الأمير الذي سلطنته سيوف اليمانية مبكية لم يرعها أحد حقها، وكيف ذبحه ابن الجارية ولم يرع ذمته له وعهده وحقه في إقامة أمويته الثانية، صرخ اليحصبي بوجه الداخل: ألمثلي يقال خسئت؟ بل خسئت أنت، فما والله لولانا وقد أتيت شريداً طريداً وقاتلت بنا القيسية لما حكمت، والآن بعد أن صفا لك الأمر قربتهم وأبعدتنا، وليّتهم وعزلتنا، وذلك لأنك وإياهم من مضر؛ فقتله.
ورغم ذلك تبقى الدولة الأموية عربية الصميم رغم مصارع اليمنيين، ولكن للحقيقة نقول إن طرفي الصراع القرشي، أموي وهاشمي، نال من اليمن وأسقط اليمن ولم يرع لليمن ذمة منذ فجر الإسلام وإلى هذه اللحظة.
هذه هي اليمن ذبحوها في كل بلد وعصر.
ومع ذلك!
نحفظ نكبة البرامكة حرفاً حرفاً، رغم أنه فارسي أراد أن يستعيد ملك جده، وشعلته.
ونحفظ البيت التي تناهت إلى مسامع هارون الرشيد في بستانه وبها كما قيل واتته القوة -قوة المستبد- للخلاص مرة واحدة من الجذر الفارسي في قلب الخلافة العباسية فأنهاهم.
نحفظ سيرة الخلفاء ومسيرة الدول الكردية والسلجوقية والخوارزمية والمماليك وكل سير وأعلام قريش وبني عثمان والفاطميين وكيف سقط الأموي وقبلها كيف ساد وكيف ساد العباسي وبعدها كيف سقط، ونحفظ خطبة الحجاج في البصرة، وخطبته في الكوفة.
نحفظ محادثة سعيد بن جبير مع الحجاج ونحفظ أبيات ولادة بنت المستكفي وننسى تاريخنا نحن، ولا نحفظ اليمني ودوره في تأسيس الدولة الإسلامية، ولا نعرف نكبته.
الفسطاط لنا، ومجد العراق والشام لنا، لنا السبق إلى كريت وصقلية وإلى المغرب وإلى الأندلس وإلى كل حدب وصوب، وإلى البداية.
لكن، ننساهم، قلة يعرفون عن ابن الأشعث..
أراد الحجاج أن يعين عبدالرحمن بن الأشعث، حفيد ملوك كندة، وجده الأشعث بن قيس، مأموراً للشرطة فكان رده (ومثلي يتقلد سيفاً ويمشي بين يدي ابن أبي رغال؟ (يقصد الحجاج) والله ما رأيت أحداً قط على منبر يخطب إلا وظننت في نفسي أنا أحق بذلك منه) وكان الحجاج يقصد إهانة أعرق بيوت العرب، ويهرق كرامة كندة، ذات الصيت!
ابن الأشعث ضم للأمويين سجستان وبلاد الترك وفتح بلاداً كبيرة، وأراد أن يستريح كي يعرف البلاد أكثر فأراده الحجاج وخليفته المواصلة بإنهاكه في القتال كي يتخلصا منه، فرد عليهما بالثورة، التي انتهت بمقتله، وهذه إحدى حيل الأموية ضد اليمانية آنذاك.
بقيت لليمنية شوكة، شوكة المهلب وولده، افتتح المهلب كل ما وراء النهر، استولى من خلالها على إقليم الصغد وغزا خوارزم وافتتح جرجان وطبرستان وحارب الخوارج تسع عشرة سنة وقضى عليهم، ومع عجزهم عنه في إزاحته خوفاً من الناس، الذين يحبونه، فكان يزيد هو الضحية، من سجن الحجاج وإلى سجن عمر بن عبدالعزيز، يتقاذفونه بالسجون خوفاً من نجابته وشجاعته ومن عِرق اليمني.
لا أحد يعرف، ويتساءل، ماذا حدث ليمنية المهلب، كيف قتلوا يزيد وإخوته وأبناءه وكل قبيلته، فهي مقتلة أشد من قتل العباسي للأموي، ومن قتل الأموي للحسين، لقد كانت أشد مذبحة دموية من قريش على رؤوس اليمنيين الذين قضوا على الخوارج وحاربوهم لعقدين وفتحوا ما وراء النهر، وإلى طبرستان ولم تشفع لآل المهلب خدماتهم وإنجازاتهم العسكرية والسياسية في خدمة الأمويين، فلحقت بهم الضربة القاضية من قتل وتشريد زمن يزيد بن عبد الملك، لينتهي مع هذه الضربة تاريخ أسرة عربية كان لها منجزاتها الخالدة في تاريخ الإسلام، ويمانية شامخة.
كان بنو أمية عبر عمالهم يهينون اليمنية لإجبارهم على الخروج عن طاعة الخليفة كي تشرعن لهم إبادتهم، فعلوها مع الأشعث، ومع ابن المهلب، ومع خالد القسري، الذي قتله الوليد بن يزيد بتهمة ولده، قتله في رصافته ومهما تقولت الحكايات فهي سلسلة متصلة من القتل والتنكيل باليمنيين من كل قريش.
وبمقتل القسري، بعد نكبة آل المهلب، والخلاص من ابن الأشعث انتهت يمانية الشام والعراق وبدأت بسقوط الأموية وبدء العباسية ودخول الرسي إلى اليمن المرحلة الدامية في عقر دار اليمني، وإبادتهم، وأزاحوا اليمانية من مشهد بلدان الفتح، ووصل حد الإزاحة إلى بلدتهم الأولى، اليمن.. كما تزامنت دمويتهم ضد اليمنية في الأندلس، إلى أن وصل بمحمد بن أبي عامر، سليل فاتحي الأندلس، بالعمل كوراق في شارع قرطبة، ولم يصل للحجابة وحكم الأندلس إلا بجهده ونبوغه وأوصله حقده السليم على قوم قتلوهم ولم يرفقوا.
وأنت تقرأ حكاية ابن أبي عامر كيف ساد وحكم تقول: أليس هذا الفتى ابنا لعبدالملك المعافري أحد فاتحي الأندلس، فكيف لإعجاب من جارية الحكم بخطه وكتابته حاز مجده وصعد إلى السلطان وقد كان جده هو السلطان.
ذاكرتنا مشوبة، نحفظ الغير، وننسى الكبار ويمانية التاريخ، وننسى المعتمد حفيد ماء السماء، ونكبته، فالجميع تَمَالأَ علينا، وذهبنا وذهبت البلاد من جبل عيبان إلى جبل الألب.
مبكيات كثيرة، ننساها، ونبكي على حسين، وعلى خالد البرمكي، وعلى دول السفاحين، وكأن دمنا المسفوك لألف سنة دم قطط، وإلى اللحظة تتعاضد ضدنا المذابح، ويُنكل بنا، الآن.
كان علي ومعاوية يتحاربان، ذاك بهمدان، وبمذحج ذاك، وفيما تسيل الدماء من أوردة اليمن كانا يتراسلان، بالفضل والتفضيل.
الهادي وشيعته كم قتلونا هنا؟
من يحفظ الضحايا، من يحصيهم، وباسم الإسلام الذي أرويناه بدمنا وحازوا اسمه وخلافته.
الشيعة تقول: الإمامة في بني هاشم.
والسنة تقول: الإمامة في قريش.
فأين نحن، أين نحن؟
أين الأوس والخزرج وأين حمير وقضاعة وكلب وزبيد وهمدان ويحصب، أين؟
تحدثت عن اليمن، ومن حقي أن أنصف الأموية: من بعد سقوط الأموي في الشرق وجدنا الأمة بين أشداق الغرباء، فرس وترك وكرد وتتر ومماليك وعصملية وأسماء شتى.
فالأموي وحده عربي الصميم، وسقوط دولة الأموي كان أكبر كارثة حلت بالذات العربية، ولولا دعوة الهاشمية والرضا من آل محمد لما وجد الفارسي سبيلاً إلى المنطقة، ولظلت الأمة العربية مسورة بالذهنية العربية إلى هذه اللحظة.
ربما كانت تتعرب نصف الكرة لو أن الأموية لم تسقط بمستهل القرن الثاني للهجرة.
كنا نريد مائة سنة أخرى للأموية في الشرق فلو أن الهاشمي سمح بقرن ثانٍ لتغير وجه الأرض إلى قيام الساعة.
وتبقى "الهاشمية" السياسية السبب الأول والرئيس للتردي العربي والإسلامي..
وإن تعرضت لليمن لمصارع شديدة من الأموية فقد كانت الحوادث سياسة حكم بعيداً عن الجنس المقدس، بل تصرفات حكام طغاة، ولكن الأمر يختلف مع ادعياء "السلالة" التي قتلتنا بحجة أنهم نطف وجنس مقدس. وتبقى تغريبة اليمن حكاية لا تنتهي.