الأمن الجيواستراتيجي للخليج العربي
شاء قدر دول الخليج العربي والمناطق المتاخمة لها أن تكون ضمن المناطق الأكثر أهميةً على مستوى العالم، مما جعل تحقيق أمن المنطقة مطلباً أممياً ضمن منظومة الأمن الدولي، ولكن بثمن باهظ ومكلف للغاية. وجميع القوى الكبرى في العالم تتهافت في صراعها على المنطقة والمشاركة في تأمينها، أو بالأحرى للظفر بينها، ولذلك فلا خيار أمام دول المنطقة سوى التوجّه المدروس نحو تفعيل منظومة الأمن الجيواستراتيجي بصورة ليس فيها مجال لارتكاب الأخطاء والمغامرات غير المحسوبة، وهو نوع من أنواع السياسات الخارجية الذي يسترشد أساسًا بالعوامل الجغرافية كأساس للتخطيط الاستراتيجي السياسي والعسكري والاقتصادي، والتنموي والمعرفي والتقني الرقمي على المستوى الوطني والقومي والاحترافية المستدامة في إدارة مقدرات الدولة والاستخدام الأمثل لها.
فالأمن الجيواستراتيجي لا يهتم فقط بحماية وتأمين حدود الموقع الجغرافي المرتبط بالظواهر الطبيعية لطبوغرافيا الأرض والمسطحات المائية والشواطئ، وموقع وحجم وشكل الدول ومحيطها والمنافذ البحرية المتاحة لها ومناخها وسكانها والموارد الطبيعية، بل بمطابقة الوسائل التي يجب أن تستخدم والإمكانيات التي يجب أن تحشد لتحقيق الغايات العليا للدول ومصالحها الوطنية، وفرض السيادة الداخلية من خلال توسيع نفوذها للخارج لاحتواء التهديد ومنعه قبل أن يصل، مما يكفل بصورة تلقائية تشابك استراتيجية الأمن القومي مع الجغرافيا، وأهمية مفهوم الأمة الخليجية، وبما في ذلك العراق واليمن والأردن وأمن الدول المجاورة لها، ولذلك تعد جمهورية مصر العربية، العمق الاستراتيجي لدول المنطقة أجمع والعكس صحيح، مما يعكس أن الجغرافيا هي دستور استراتيجية الأمن الشامل لأي دولة. ولا تستطيع أي دولة بمفردها أن تحقق أمنها القومي في ظل المعطيات الحالية على الساحة السياسية والعسكرية الدولية.
وفي ظل معطيات العولمة والتكنولوجيا الحديثة واستخداماتها لتحقيق المصالح القومية وتفشي داء الذكاء الصناعي في كل مناحي الحياة والتغير المناخي وتبعاته في البيئة وعلى الإنسان كتهديدات رئيسية ذات أولوية مربكة إلى جانب ثورة تقنيات الاتصالات وسطوة وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تمثل سلسلة حدود الجغرافيا الافتراضية للأمن، تحول أي عدوان خارجي عسكري أو تخريب بفعل الإنسان إلى تهديد ثانوي، كما أن المنطقة على خط عرض مصالح القوى العظمى، وهي أحد أهم الملفات الساخنة في العقيدة الجيواستراتيجية المتّبعة عند تلك الأمم، والسيطرة الحتمية على هذا الجزء من العالم تعتبر ركيزة ثابتة لديهم، وبالتالي سياسات الأمن القومي الخليجي يجب أن تستند لخطط جيواستراتيجية مغايرة للمنهج التقليدي للنظرية من أجل تفكيك الضغوط الحتمية، وتحقيق سبق جيواستراتيجي يضع حداً للتفاوت الكبير في موازين القوى.
فالمسألة لا تتعلق بأمن كل دولة على حدة، ومن المنظور الجيواستراتيجي الخليجي الشامل يجب التركيز على التهديد الجيواستراتيجي لكونه يرتبط مباشرة بالخطط الجيواستراتيجية للدول المجاورة والإمبراطوريات الكبرى من جهة، وبالمؤسسات العالمية التجارية والصناعية من جهة أخرى، مما يوضّح ضرورة العمل المعياري الخليجي والعربي المشترك لتكون الدبلوماسية والسياسة هما من يعيدان تشكيل حدود الجغرافيا دون تغيير ملامحها، ودمج الاعتبارات الاستراتيجية مع العوامل الجيوسياسية لوقف نزف فقدان السيطرة على المساحات الحرجة على سطح الأرض في العالم العربي بشكل خاص، والتي قد تتطلب تدخلاً عسكرياً جراحياً مستقبلاً من خلال المحطات العسكرية الخليجية أو العربية الموحّدة في الخارج، وبناء سفن حربية خليجية مشتركة قادرة على سبر غور المحيطات العميقة، فكلما تأخر مشروع القبة الأمنية الخليجية، وبناء وتدشين الأسطول الخليجي البحري والجيش الخليجي الإلكتروني ازدادت الفجوة في إحداث التوازن على مستوى المسرح العسكري والأمني.
كما نشير إلى أهمية استخدام استراتيجية حفظ ماء الوجه كمحرك لدبلوماسية تدعو للسلام من خلال أن تكون قادراً على الردع الدفاعي كأسلوب استباقي في المنع الجيواستراتيجي، والذي لا يتطلّب الحضور العسكري المباشر لتأمين المنافذ بل إيجاد مصلحة وحاجة ملحة للطرف الآخر ليشاركك المصالح النفعية، وخاصةً أن التخطيط بناءً على مفهوم العداء التقليدي غير ناجع، ولا يساهم في تحقيق الغايات الوطنية التي تخضع للقياس العلمي، وتتأثر وتؤثر في الغموض وعدم اليقين السياسي، ناهيك عن سرعة تحور طبيعة التهديدات الناشئة، وطالما أن أداوت المنع الاقتصادي والمالي والثقافي والاجتماعي والمعلوماتي، وهزيمة الإرادة الشعبية ليست بأيدينا لفرضها على الآخرين، وتراجعنا بسبب سوء في فهم كيف يسير العالم من حولنا، ولكنني أبقى متفائلاً في ظل القيادات السياسية الناضجة، وبأن التخطيط الجيواستراتيجي سيكون له دور محوري في ما هو قادم في منطقة الخليج العربي، وبأن المخططين الجيواستراتيجيين سيكونون صقور التغيير في فن إدارة النزاعات، وتحويل التهديدات لفرص، وتحقيق السبق المرجو منه في دعم القرار الخليجي والعربي مستقبلاً.
* نقلا عن صحيفة الاتحاد الإماراتية